اﻷشهر السبعة اﻷولى من عام 2018 …
تحدثت في تدوينة سابقة عن ذكرياتي في بيت الضيافة الذي كنت أقيم فيه عندما كنت أعمل في منظمة إنسانية في مدينة إنطاكية الواقعة في جنوب تركيا، هذه التجربة التي انتهت عندما انتقلت للعمل في منظمة إنسانية أخرى في مدينة غازي عنتاب التي تقع في الجنوب أيضاً بالقرب من الحدود السورية المكان المفضل للمنظمات الإنسانية لكي تكون قريبة من أماكن عملها داخل الشمال السوري.
هكذا وجدت نفسي في آخر يوم من عام 2017 أستقل الحافلة نحو غازي عنتاب .. عندما وصلت الى المحطة أسرعت ونزلت من الحافلة مع حقائبي الثقيلة ومشيت قليلاً حتى وقفت أمام باب الخروج واتصلت بأحد الموظفين في المنظمة الجديدة والذي كان مسؤولاً عن بيت الضيافة ﻷستفسر منه عن كيفية الوصول إليه، أخبرني عن رقم الباص الذي سيوصلني الى المنطقة وأرسل لي موقع البيت .. هذه أحد حسنات أن تمتلك هاتفاً ذكياً .. ومن ثم ببعض الجهد كنت أقف أمام المبنى الذي يضمُ بيت الضيافة.
كان الوقت ليلاً وكان المبنى يقع في وسط المدينة .. وهذا أمر أسعدني .. المطر يتساقط بشكل خفيف والشوارع خالية من المارة تقريباً مع عدد قليل من العربات يمر من خلالها .. المبنى قديم يتكون من تسع طوابق عالية بحكم قِدمه وكان بيت الضيافة في الطابق اﻷخير.
عندما دخلت المبنى اكتشفت أن المصعد معطّل وأخبرت الموظف الذي عرفت أن اسمه حسام بذلك فقام مشكوراً بالنزول وساعدني في حمل الحقائب حتى وصلنا ودخلنا الى بيت الضيافة.
البيت كان قديماً .. بعكس بيت الضيافة السابق .. لكن الجميل به أنه يحمل سمات البيوت الطبيعية بعكس السابق الذي كان أقرب لبنسيون صغير يزوره الكثير من الغرباء.
بيت قديم يتكون من أربعة غرف مؤثثة بشكل جيد إحداها واسعة انتشر في أرجاءها العديد من الأسرّة مع مكتب وطاولة اجتماعات ضخمة .. كانت غرفة بحجم بيت تطلّ نافذتها على الشارع الرئيسي وكانت هي غرفتي خلال إقامتي ببيت الضيافة وبجانبها هناك غرفة أخرى جُهزت كغرفة جلوس بكنبتين وشاشة كبيرة استقرت على إحدى حوائطها وباب يؤدي الى شرفة مربعة كبيرة موصولة بأحد أطرافها بشرفة ضيقة تنتهي بباب يؤدي الى مطبخ كبير مربع مع طاولة طعام ثم يبدأ ممر طويل يضم غرفتين صغيرتين الى حد ما مع حمام ومكان للغسّالة في طرفه اﻷيسر.
في ذلك البيت قضيت أشهراً لا تنسى وتعرفت على عدد كبير من الشخصيات واﻷصدقاء ومررت بأحداث وذكريات عديدة .. وكان الجميل فيه أن سكانه كانوا ثابتين تقريباً عدا بعض اﻷشخاص الذين كانوا يأتون من سوريا أو من أماكن أخرى ﻷيام قليلة ثم يعودون أدراجهم.
في البداية كنا اثنين أنا وحسام ثم انضم لنا شخصين لنصبح أربعة شخصيات ثابتة في بيت الضيافة، كانت ظروفنا متشابهة بكون عائلاتنا تعيش في مدن أخرى مع تعذر انتقالها ﻷماكن عملنا لعدة أسباب، بالنسبة لي كان السبب وقتياً يتعلق برغبتي بالتأكد من ثباتي في العمل بعد تعلمي من التجربة السابقة لذلك كان انتقال عائلتي مسألة وقت فقط بخلاف البقية الذين لم يكونوا يستطيعون فعل ذلك لظروف مختلفة، وبالنسبة لحسام كان اﻷمر سهلاً لصغر سنه وكونه مازال في طور العزوبية.
وكما قلت من قبل .. كانت إقامتي في بيت الضيافة بغازي عنتاب تجربة لا تنسى لعدة أسباب منها .. وهو السبب الأهم .. أننا نحن الشخصيات الثابتة اﻷربعة كنا منسجمين بشكل كامل ولم تحصل بيننا أي خلافات خاصة فيما يتعلق بالنشاط اليومي المتعلق بالطعام والتنظيف وخلافه، كنا نعدّ الطعام سوية أو نتقاسم المهام وأحياناً كنت أفعل ذلك لوحدي بعد أن اكتسبت تجربة لا بأس بها بهذا الصدد أثناء إقامتي ببيت الضيافة السابق.
كنا نعيش كعائلة .. نعود من العمل ونعدّ الطعام ونأكل وبعد قليل من الراحة نجتمع مساءاً في الصالة أو في الشرفة العريضة .. عندما يكون الوقت صيفاً .. بعد أن نرشها بالماء ونجففها ونفرش بساطاً وبضعة وسائد ثم يأتي دور المكسرات والمياه الغازية واﻷحاديث والضحكات.
أحياناً كان يأتي لبيت الضيافة عدد من الموظفين لكي يلعبوا بأوراق الكوتشينة باعتباره مكاناً مريحاً ذكورياً يحتوي على مشروبات وضيافة .. لم أكن أشاركهم اللعب ﻷنني أكره هذا النوع من اﻷلعاب وأعتبرها مضيّعة للوقت ومثيرة للمشاكل والصراخ وكنت أكتفي بالجلوس وتبادل اﻷحاديث مع من ينتظر دوره في اللعب أو من هو كحالتي لا يرغب في اللعب أساساً.
وكما أخبرتك من قبل .. تعرفت على شخصيات كثيرة أثناء إقامتي في بيت الضيافة هذا منها ما كان معرفة عابرة ومنها ما كانت بداية لنوع من أنواع الصداقة التي ليست تحتم بالضرورة أن تلتقي بذلك الشخص بشكل يومي ولكن يكفي أن تشعر بالمودة والترحاب في كل مرة تصادفه فيها في مكان ما .. وبالمقابل هناك من لن ترغبه برؤيته في أي مكان ولو من باب المصادفة.
ومن الشخصيات التي تعرفت عليها كان أحد أعضاء الرابطة التي قامت بتأسيس المنظمة وهو طبيب أسنان من اللاذقية كان هو وعائلته من بين الهاربين في الثمانينات من بطش النظام السوري في ذلك الوقت وكل وقت، وبرغم أنني لم ألتق به سوى لمرتين فقط إلا أنه ترك عندي انطباعاً إيجابياً لا ينسى بهدوءه وبساطته وتعامله اللطيف، سافر فيما بعد الى بريطانيا واستقر هناك بعد أن استقال من عضوية الرابطة.
وهناك أيضاً مجموعة من الشخصيات وهم موظفين سابقين في المنظمة كانت لي معهم تجربة لا تنسى سأتكلم عنها لاحقاً بشكل مستقل ﻷنها تستحق ذلك.
وبعكس ذلك كان هناك من زائريّ بيت الضيافة من كنت أقضي الوقت خارج البيت وأعود ﻷنام فوراً عندما أعلم أنه يتواجد هناك ، الجميل أن عدد هذه النوعية كان قليلاً والحمد لله.
كان وجود بيت الضيافة في وسط البلد أمر أشعرني بالسعادة كما أسلفت .. كنت أرغب دائماً في العيش في وسط المدينة التي أسكن فيها وجاءتني الفرصة لخوض هذه التجربة، السير في اﻷسواق الرئيسية والشوارع من دون أن تتكبد عناء الوصول لها عن طريق المواصلات، فقط الخروج من المبنى والسير لبضعة خطوات وهوب أصبحت في أماكن السير المحببة خاصة بوجود حديقة تمتد لمسافة طويلة ضمن وسط المدينة.
وفي بيت الضيافة ولوجود جو هادئ مناسب خاصة في أيام العطل التي لم يكن يبقى خلالها في البيت سواي أنا وحسام بعد أن يسافر البقية بدأت عبر مدونة دهليز الصوتية بتسجيل أول البودكستات التي كنت أكتبها أيضاً أي أنني كنت أقوم بالعملية بشكل كامل من كتابة وتسجيل ومونتاج .. كان منها حكايات أبطالُها حيوانات كنت أستوحيها من حوادث وتصرفات يقوم بها بعض البشر من حولي وبعضها عبارة عن قصص أو مواقف خيالية وبعضها تدوينات من مدونات سابقة قمت بسردها صوتياً .. كانت تجربة ممتعة لم أستطع الاستمرار بها للأسف بسبب ضيق الوقت وانشغالي بأمور أخرى مع رغبتي الدائمة بتكرار التجربة في أي وقت سانح.
ولم يخلو بيت الضيافة من الذكريات الحزينة باﻷخص ذلك اليوم الذي جاءني في مساءه خبر وفاة الدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله .. كانت بالنسبة ليلة حزينة بكل معاني الكلمة وفوق معانيها، الحزن الذي لم يغادر نفسي حتى اﻵن.
وﻷن الهواية المحببة للأيام هي أن تنتهي كان لا بد أن يأتي يوم أغادر به بيت الضيافة .. كان ذلك عندما قررت بأن الوقت قد حان لانتقال عائلتي الى غازي عنتاب بعد أن وجدت البيت المناسب، ولا أخبرك عن تلك الغصة المؤلمة التي شعرت بها وأنا أغادر البيت كأحد سكانه للمرة اﻷخيرة، كانت لي زيارات كثيرة له بعدها استمرت حتى بدأ وباء كورونا بالظهور واضطررت .. كباقي سكان الكوكب .. للبقاء في البيت حتى بداية سنة 2021، الحقيقة أن تجربة العزل لم تكن سيئة بالنسبة لي على اﻷقل وسأتكلم عن ذلك في التدوينة القادمة إن شاء الله.
في نهاية عام 2021 اشترى شخص ما بيت الضيافة من مالكه وهكذا اضطرت المنظمة الى تسليمه الى مالكه الجديد، كانت مناسبة حزينة أن تنتهي علاقتي ببيت الضيافة الذي لم أعد أستطيع بعد اﻵن زيارته ولم يبق لي فيه .. كبقية ساكنيه الثابتين .. سوى الذكريات وما لدي من صور له.
وبرغم أن بيت الضيافة لم يعد موجوداً اﻵن إلا أنه يعود في كل حين الى ذاكرتي بتفاصيله القديمة المحببة على نفسي وأصوات الأحاديث والضحكات وتلك الجلسات الأسبوعية التي لم يكن هناك مثيل لها في حياتي.
ذهب بيت الضيافة كمكان مادي وبقي كذكرى حيّة وصاخبة.
رائع جدًا. لقد عشت معك الذكريات كأنني من سكان هذا البيت. خاصة أن لي تجارب سابقة مع النزوح، والمنظمات الانسانية كذلك.
واصل السرد عزيزي.
شكراً على كلامك الطيب .. لا أعاد الله النزوح عليك
سرد جميل وسلس كالعادة…
أنا ممنون ﻷنه أعجبك 🙂