شيء من حتى

وداعاً أبو علي

البارحة في الصباح شاهدت عبارة دعاء كتبها أحد الموظفين في عملي السابق على حالته في الواتس بأن يشفي أحد أصدقائي هناك .. شعرت بدهشة كبيرة واستفسرت منه عما جرى .. أخبرني بأن ذلك الصديق كان يلعب كرة القدم في اليوم السابق وسقط فجأة أثناء اللعب على الأرض من دون حِراك .. أخذوه الى المشفى الحكومي في أنطاكية وقاموا بعمل قسطرة قلبية له واكتشفوا أن قلبه وشرايينه سليمة .. كان في غيبوبة كاملة وأرادوا تصوير دماغه وكان جهاز الرنين المغناطيسي في ذلك المشفى متعطلاً فنقلوه الى مشفى في منطقة أخرى وأجروا له جلسة التصوير وهم ينتظرون نتيجة التصوير.

بعد هذا الكلام بدقيقة عاد ليخبرني بأنه قد سمع خبراً الآن بأنه توفى .. لم أصدق الخبر في البداية وتأكدت بعدها للأسف من أحد من كانوا معه في المشفى.

الرجل الذي كان يتبادل معي المزاح والسؤال عن الأحوال منذ أيام قليلة لم يعد هنا قط.

كان أول لقاء لي مع أبو علي في بيت الضيافة بعد أشهر قليلة من انتقالي للعمل في غازي عنتاب .. ومن أول لقاء شعرت بالراحة في التعامل معه ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى صرنا أصدقاء.

كنا نقضي الوقت بعد ساعات العمل في بيت الضيافة أنا وهو وآخرين وكأننا عائلة حقيقية .. ننظف الشرفة العريضة في مساءات الصيف ونقضي المساء في الأحاديث والضحك وتناول الفواكه والمكسرات وشرب المياه الغازية التي كنت أشتريها خصيصاً لكي أقوم بفتحها عن طريق ملعقة معدنية.

كان شخصية لطيفة تتجنب جرح من حولها بأي كلمة أو تعبير حتى عند ساعات غضبه .. كانت هذه صفة رئيسية ملازمة له .. قد نعتبرها ظاهرياً صفة إيجابية وقد تكون كذلك بالنسبة لمن حوله ولكن ليست كذلك بالنسبة له .. هذا يعني كتمان أكوام من الغضب والكتمان عواقبه .. كما تعلم .. وخيمة.

كان يمتلك مهارة المواساة والتخفيف عن الناس في أوقات حزنهم وغضبهم .. وهذا جعله ملجأ للكثيرين بسبب هذه الصفة وكانت صفة إيجابية .. إيجابية لمن حوله وليس له تحديداً.

وكنت أنا من هؤلاء الناس .. ألجأ إليه في ساعات الغضب وما أكثرها وأرتاح بشكل كبير بعد تبادل الحديث معه.

كان من الناس الذين رُشحوا في وقت مبكر للحصول على الجنسية التركية .. كان هذا بالاضافة الى ميزات المواطنة سيعطيه خيارات أكثر بالنسبة لأمكنة العمل التي تفرض شرط المواطنة للعمل فيها .. وجاء قرار الموافقة على الجنسية قبل الانتخابات التركية الأخيرة بقليل .. كان خائفاً من أن يحدث شيء ما يوقف هذه الموافقة ولكنه حصل عليها قبل بدء الانتخابات بأيام.

كانت سعادته كبيرة وأخبرني أنه على الأقل سينال أخيراً نعمة الاستقرار وأن خيارات أخرى قد فتحت في طريقه وسيخطط لحياته وفق هذا الأساس .. كان مهتماً جداً بإكمال كل النواحي القانونية بأكبر سرعة ممكنة .. بدأ بتحديث بيانات حساباته البنكية واستخرج جواز سفر .. جواز سفر لم يستخدمه قط.

الطموحات والأحلام التي كانت يتحدث عنها في تلك المرحلة .. انتقاله الى غازي عنتاب .. الراحة النفسية التي بدأ يشعر بها برغم كل شيء.

لكن .. وكما أخبرتك .. كان شخصية لطيفة تتجنب جرح ما حولها ويكتفي بالصمت في كثير من الأحوال .. وكان هناك العديد ممن يعتبرون هذه الصفة ضعفاً ويستغلونها أبشع استغلال .. تلك الشخصيات المنحطة التي ترمي الكلام والاتهامات بهمجية وبلا أي اعتبارات أخلاقية.

عادة نحن نطلق مصطلح جريمة على أي فعل قتل مباشر ولكن هناك جرائم أخرى تحدث بطرق غير مباشرة .. القتل البطيء عن طريق القهر .. هناك من يثور ويغضب وقد ينجو .. هناك من يصمت ليحدث انفجار داخلي في لحظة ما.

وأنا لا أكتب ما أكتبه الآن من أجل الذكرى فقط فمثل أبو علي من الصعب أن تنساه عندما يمر في حياتك فكيف لو كان أحد مفردات حياتك لوقت طويل من الزمن.

الحقيقة أنني أحاول أن أقول هناك مجموعة من النصائح ستفيدك جداً يا صديقي في وقت ما:

  • لا تفكر كثيراً في المستقبل ولا تجهد نفسك في التخطيط والاعداد فوق طاقتك فلحظات الراحة والسعادة التي تخطط لها قد لا تأتي مطلقاً .. اعتمد على ما هو موجود بين يديك فعلياً.
  • لا تملأ عقلك بالضغوطات وتجاهل أموراً كثيرة عن طريق التقليل من قيمتها .. لو لم تنجح ابتعد عن ذلك الجو المشحون بأبعد ما تستطيع .. صحتك وحياتك بالتأكيد أهم من كل شيء.

رحمك الله يا أبو عليّ حين مت وغفر لك حين تبعث حياً.

11 Comments

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *