الشهر الثامن 2012
تحدثت في الجزء السابق عن مغادرتي لبيتي نحو بيت أهلي بعد ليلة امتﻷت بصوت الرصاص وبكاء طفلتاي تلك المغادرة التي كانت نهائية ولم أكن أحسبها كذلك.
الحقيقة أن اﻷحوال في منطقة بيت أهلي لم تكن جيدة وإن كانت أقل سوءاً من منطقة بيتي … حيّ سيف الدولة .. الذي تحول الى ساحة حرب حقيقية مات فيها أبرياء كُثر من جراء القنص، وكانت آخر مرة رأيت بيتي فيها عندما ذهبنا مع أحد جيران بيت أهلي الذي كان يملك عربة أجرة وقمنا بنقل ما استطعنا من اﻷلبسة واﻷغراض، كانت الكهرباء مقطوعة والطعام بدأ يفسد في الثلاجة وأنقذنا منه ما استطعنا انقاذه.
اﻷمر الذي أشعرني بالمرارة في ذلك الوقت شعوري بقلة الحيلة حيال ما كنت أستطيع أخذه من بيتي ﻷن الوقت كان ضيقاً والوضع خطير وأصوات الرصاص القادمة من مكان ما قريب لا تهدأ واﻷولويات لم تكن لمقتنياتي الشخصية بل لباقي اﻷغراض وخصوصاً أغراض الفتاتين وضاع الكثير منها من خلال عمليات النهب التي تمت فيما بعد، والذي جعلني أشعر بمرارة أكثر أن قيمة مقتنياتي الشخصية لن يدركها سواي وهي ليست ذهباً أو شيئاً ذا قيمة واضحة ومع ذلك لم يوفر اللصوص شيئاً فهم إما سرقوا أو خرّبوا وما زالت زوجتي حتى اﻵن تدعوا عليهم بين الحين واﻵخر فأقول لها :
- من المؤكد .. بعد كل هذه السنين .. أنهم استهلكوا كل ما سرقوه، ذهبت المسروقات وبقيّ يوم الحساب.
ومع اﻷيام أصبحت اﻷوضاع أكثر سوءاً وأصبح صوت الرصاص والقذائف يسمعان في كل اﻷوقات خصوصاً في أحد أيام الجمعة التي تعمد فيها عناصر جيش النظام أن يطلقوا النار بكثافة بعد صلاة الجمعة مباشرة كنوع من التهديد المباشر لكل من تسول له نفسه بأن يقف ويتظاهر، وأصبحنا في حالة حصار شبه كامل بعد أن صارت أطراف الحيّ أماكن مواجهة بين جيش النظام وجيش المعارضة كونه يشرف بشكل مباشر على حيّ صلاح الدين الذي كان المركز الغربي لقوات المعارضة.
هنا بدأت فكرة السفر نحو تركيا بالتشكل حتى بدأ الاستعداد لها وصارت أمراً واقعاً، لم أكن من مشجعيّ هذه الخطوة التي كنت أعتبرها غير مدروسة وكان هناك سؤال بسيط يدور في عقلي ويسأله لساني في كل مرة يُفتح هذا الحديث :
- لنفترض إننا سافرنا لهناك .. ماذا سنفعل بعدها !؟
وكان الجواب يأتي بأن هذا الوضع سيكون مؤقتاً وأننا سنعود مباشرة بعد أن تؤول الأمور الى طريق واضح.
هكذا وجدنا أنفسنا في إحدى الصباحات نُودع أبي الذي بقي في المنزل ونركب إحدى عربات السرفيس ونتجه نحو الحدود التركية، في الطريق لم نصادف إلا حاجزاً واحداً للنظام على أطراف المدينة ثم كانت هناك حواجز متفرقة لقوات المعارضة على طول الطريق حتى وصلنا لادارة الحدود التي كانت خالية من الموظفين وقد تطايرت اﻷوراق الحكومية حول المبنى وعبرنا بعدها الحدود التركية بدون صعوبة سوى عناء نقل أغراضنا الكثيرة من العربة الى حافلة تركيا أوصلتنا حتى مدينة أنطاكيا الى مركز باصات السفر تحديداً ومن هناك ركبنا باصاً سار بنا نحو مدينة مرسين حيث وجهتنا النهائية حيث سبقنا بيت جدي ﻷمي الى هناك.
عندما وصلنا لبيت جدي أدركت منذ النظرة اﻷولى أن بقائنا معهم مستحيل تماماً، للدقة كان البيت لخالي الكبير الذي عاش معظم حياته في ألمانيا ثم تقاعد وعاد الى سوريا لفترة ثم انتقل الى تركيا واشترى بيتاً في مرسين واستقر فيها وبدأ ينتقل بين سوريا وتركيا حتى اقتنع أن الأمور في سوريا ذاهبة نحو المجهول فسافر هو وجدتي وخالاتي الاثنتين وخالي اﻵخر وأولاده واستقروا في بيته هناك.
هكذا .. كما لك أن تتوقع .. كان البيت مزدحماً جداً رغم كونه واسعاً وأصوات اﻷطفال لا تهدأ طوال الوقت .. كانت الخطة بالنسبة لنا أن نقيم عندهم عدة أيام حتى نستأجر بيتاً مناسباً وننتقل إليه وقد فعلنا ذلك فعلاً بعد حوالي العشرة أيام مرت عليّ وكأنها دهر كامل خصوصاً بعد أن سمعنا .. عن طريق أحد المعارف .. بأن أبيّ قد وقع على ظهره عندما تسلق جدار حديقة بيت جديّ في حلب ليتأكد من خبر جاءنا بأن عسكرياً من النظام قد دخل المنزل وينام في حديقته باستمرار.
حدث ذلك في أول أيام عيد الفطر وكانت الاتصالات شبه مقطوعة .. عمداً .. في حلب وقضينا ساعات سوداء ونحن نحاول الاتصال بأبي لنطمئن عليه وفي النهاية تم الاتصال وتأكدنا من أن السقطة لم ينتج عنها أيّ أذىً دائم.
كانت أعصابنا مرهقة وكنا مصابين بنوع معين من العصبية التي تستطيع التسبب .. بمنتهى السهولة .. في مشاكل تافهة بغرض تفريغ تلك الشحنات الانفعالية الناتجة عن كون كل الطرق التي أمامنا قد أصبحت مسدودة .. تكاليف الحياة مرتفعة والنقود التي معنا ستنفذ في لحظة ما إضافة الى ذلك المبلغ الغير قليل الذي أُنفق على أخي اﻷوسط لكي يذهب الى اﻷردن بعد أن وعده صاحب عمله اﻷردني .. الذي كان يملك متجر ألعاب في إحدى المجمعات التجارية بحلب .. بعمل في فرع ذلك المتجر في اﻷردن، وعاد أخي بعد ذلك بفترة قصيرة ﻷنه لم يستطع تحمل المعاملة السيئة التي كان بدأ يعامله بها صاحب العمل بعد أن تغيرت اﻷمكنة واﻷحوال.
كل هذا جعلني أخذ قرار لا رجعة فيه بالعودة الى حلب وفعلاً وجدت نفسي عائداً الى هناك أنا وعائلتي الصغيرة وأميّ بعد أن قضيت حوالي الشهر في تركيا.
وبرغم اﻷحوال التي لم يتغير مستواها السيء إلا أنني شعرت بالراحة من جراء ابتعادي عن الزحام والمشاكل، وقدّرت أن اﻷمر لن يطول قبل أن تستقر اﻷمور في حلب وسوريا كلها لذلك لن يحتاج اﻷمر للذهاب الى أي مكان آخر.
وبعد أيام سافر والدي وأمي الى تركيا بعد وعد من أبي بأن سفره لن يطول سوى لشهر على اﻷكثر .. ذلك السفر الذي طال ولم يعد الى سوريا حتى اﻵن.
الشهر التاسع 2012 وحتى الشهر الثالث 2013
هكذا وجدت نفسي وحيداً مع عائلتي الصغيرة في بيت أهلي الذي خلا .. على غير عادته .. من أي أحد سوانا، وأنا لم أكن أتصور في يوم من اﻷيام أن يحدث ذلك، البيت الذي لم يعد كما كان بعد أن خلا من أصحابه وخلت الغرف من ساكنيها اﻷصليين ولم يعد فيه أحد سواي أنا وعائلتي الصغيرة.
وﻷول مرة في حياتي أجد نفسي معزولاً عن عائلتي الممتدة بشكل كامل بعد أن أصبح أبي وأمي وأخوتي في بلد آخر وأصبحت رؤية بقية أفراد العائلة صعباً مع صعوبة وخطر التنقل وانشغال الناس باﻷعباء الإضافية جراء اﻷوضاع المتأزمة باستمرار.
بعد سفر أبي وأمي بدأت الكهرباء بالانقطاع بعد أن بقيت مستقرة طوال فترة الصيف، والسبب طبعاً هو مجيء الشتاء وبدء تشغيل الناس للمدافئ الكهربائية مع تعذر الحصول على وقود التدفئة وارتفاع أسعاره، ومع أن تأمين الكهرباء للناس لم يكن صعباً إلا أن النظام كان يقطعها متعمداً عنهم ﻷنه يريدهم .. ببساطة .. أن يرحلوا أو أن يعيشوا من دون خدمات ﻷنه يعتبرهم جميعاً الحاضنة الطبيعية للمعارضة كونهم لا ينتمون لتلك الطائفة التي تحكم سوريا حكماً دكتاتورياً جشعاً منذ السبعينات.
ومع انقطاع الكهرباء بدأت المشاكل الحقيقة مع التدفئة وخصوصاً مع وجود أطفال في المنزل .. كانت الكهرباء تقطع لأيام متواصلة ومرة وصلت فترة انقطاعها لنحو عشرين يوماً من جراء عُطل في الكابل الرئيسي، كان الناس يأتون بمن يغير أماكن كابلاتهم للخطوط التي تعمل وكان هذا يؤدي الى انقطاعها هي اﻷخرى حتى باتت المنطقة كلها بدون كهرباء، في النهاية قام الناس بجمع النقود وأتوا بورشة كهرباء أصلحت اﻷعطال لتأتي الكهرباء بعدها لعدة ساعات متفرقة في اليوم وكل هذا ومن تعد نفسها حكومة تقف لتتفرج من بعيد بشكل لا يخلوا من شماتة.
تصور معي أنك تعيش ضمن مدينة تخلوا من الخدمات حيث لا تأتي الكهرباء أو الماء إلا لفترة محدودة لا تكفي لمتطلبات الحياة، ماذا بوسعك أن تفعل عندها !؟
لو كنت تعيش في قرية لبات تأمين البدائل أكثر سهولة، كنت ستجمع بعض الحطب ليتجمع الناس أمام المنزل أو في وسطه .. لو كان هناك فسحة مكشوفة .. ليتدفئوا ويطبخوا على نار الحطب .. ومع تربية بعض الحيوانات ستستطيع تأمين الحد اﻷدنى على اﻷقل من الطعام.
أما في المدينة فيسكون هذا اﻷمر صعب وعبثي جداً .. لذلك كنا نصنع أنا وزوجتي شيئاً أشبه بخيمة صغيرة من بعض اﻷغطية وندخل نحن والصغيرتان لنحكي لهما بعض الحكايا ويصبح المكان دافئاً بفعل أنفاسنا وتنام الصغيرتان بعد ذلك بفعل الدفء والحكايات.
مرة وعلى وقع البرد وضعنا منقل الفحم الذي كنا نشوي اللحوم فوقه في المطبخ بجانب الشباك وأشعلناه لكي نحظى ببعض الدفء ولكننا حظينا بدلاً من ذلك بكمية كثيفة من هباب الفحم أجبرتنا على إخراج المنقل للشرفة قبل أن نختنق.
كنا ننام في أصغر غرفة من البيت وكنا نمائها بكل ما هو موجود من أغطية لكي نخفف من حقيقة أن الدنيا برد، وفي أوقات الكهرباء القليلة كنا نشغل السجادة الكهربائية التي وضعناها أسفل الفراش الاسفنجي لكي تعطيه بعض الدفء، وفي الليل نضع القطة في إحدى الغرف ونغلق الباب علينا خوفاً على الفتاتين منها .. كان لهذا سبب سأحكيه فيما بعد .. لم أكن ممنوناً من هذا التصرف القاسي في هذا البرد ولكني كنت مضطراً.
لكننا .. بعد أيام قليلة .. استفقنا في فزع على طرق عال على باب الغرفة .. هل هو لص !!؟ ومن ذلك اللص المهذب الذي يطرق باب الغرف قبل أن يدخل !!؟ .. عندما فتحت الباب تبين لي أن الذي كان يطرق الباب هي القطة التي لم تعتد تحتمل البرد وانعدام الصحبة فطرقت الباب بإلحاح بذلك الشكل البشري .. توكلت على الله وأدخلتها ووضعتها تحت الغطاء أسفل قدماي وبقيت تنام هكذا حتى آخر يوم لنا في المنزل.
كانت مواعيد نومنا واستيقاظنا متعلقة بوجود الكهرباء من عدمه لذلك كنت أشعل التلفاز وأجعل مستوى الصوت ﻷعلى حد ممكن بحيث يوقظنا صوته لو حدث وأتت الكهرباء عندئذ كانت الفتاتين تسرعان نحوه لتتفرجا على برامج اﻷطفال وكانت زوجتي تسرع نحو الغسيل وأنا نحو الحاسب لكي أرى ما حدث طوال فترة غياب الكهرباء، ولم نكن نستطيع تشغيل جميع اﻷجهزة ﻷنها كانت تأتي ضعيفة وفي أوقات عديدة لم تكن تعمل الغسالة فكانت زوجتي تضطر ﻷن تغسل الملابس بيدها.
وكانت ابنتاي تشعران بالفرحة عند استيقاظهما في الصباح وقد غمر الضوء الدنيا وذهب الليل وعتمته الى حين.
الأمر الوحيد الذي كنت أعده إيجابياً في ذلك الوقت هو أن عدم وجود الكهرباء وبالتالي الانترنت وجلوسي طوال الوقت في المنزل قد جعلني أنشغل بقراءة الكتب التي بقيت في بيت أهلي ولم أنقلها الى بيتي لعدم وجود مكان لها وكم كنت أتمنى إبقاءها جميعاً هناك.
وبرغم أن المكتب الذي كنت أعمل به قد عاد للعمل وقام صديقي هناك بمحاولة اقناعي أكثر من مرة أن اﻷمور طبيعية إلا أنني كنت خائفاً من التنقل والذهاب الى وسط المدينة، كانت اﻷخبار التي وصلتنا وتصلنا عن الحوادث والاعتقالات التي تحدث في باقي المدن كفيلة بأن تجعل الناس يتسمّرون خائفين في بيوتهم وأرسل لي أبي .. عن طريق عمي اﻷصغر رحمه الله .. مبلغاً وأخبرني أنه سيرسل لي مثله كل شهر لكي لا أخرج للمجهول الذي يحدث في الطرقات.
قبلت ذلك مع أني كنت أدرك أن هذا ليس حلاً عملياً وفهمت بعد شهرين أن أبي لم يعد يستطيع إرسال أي شيء وأن عليّ الاعتماد على نفسي لذلك أعلمتُ صديقي أنني عائد للمكتب وبدأت الذهاب بشكل يومي نحو العمل، لن أخوض في تفاصيل هذه التجربة ﻷنني تكلمت عنها هنا وسأتكلم عن تفاصيل أخرى في وقت قادم إن شاء الله.
لم يكن المردود كافياً وخصوصاً في تلك الظروف الصعبة ولكنه المتاح وعليّ أن أتدبر اﻷمور بموجبه، ولم يكن اﻷمر سهلاً أبداً خصوصاً أن اﻷسعار ترتفع باستمرار والمواد واﻷطعمة الغير مراقبة صحياً قد بدأت في الانتشار وصار عليك التأني في شراء أيّ شيء في ضوء حقيقة أن الكهرباء موجودة بالكاد وأنه من الممكن أن تشتري .. لو لم تكن يقظاً .. أطعمة فاسدة كما كاد يحصل معي عندما حاولت شراء بعض لحم الدجاج من بائع وتصادفت عودة أحد المشترين الحانقين الذين فتحوا كيس الطعام وتفاجئوا بالرائحة .. هكذا استدرت وغادرت المتجر من دون أي كلمة زائدة.
وكجزء آخر من المشكلة كان تأمين الخبز حكاية بحد ذاتها مع ازدحام اﻷفران والمشاكل التي كانت تحدث حولها خصوصاً من قبل الشبيّحة وعساكر النظام المغرمين باطلاق الرصاص بالهواء بمشاكل أو بدون مشاكل .. مرت أصيبت إحدى أذني بصمم مؤقت من جراء إطلاق أحد العساكر لبضع طلقات أثناء مرور عربته ملاصقة لعربة السيرفيس التي كنت أجلس بها.
لذلك كنت أبحث باستمرار عن فرن غير مزدحم جداً أستطيع الوصول إليه بأقل عدد ممكن من الحواجز، وحتى مع بحثي الحثيث كنت أحياناً أفشل بالعثور على فرن يحتوي على دور أستطيع الوقوف ضمنه والعودة للبيت قبل أن يحل الظلام عندها كان حماي .. رحمه الله .. يرسل لنا بعض أربطة الخبز الذي كان يقضي قسطاً كبيراً من يومه واقفاً عند فرن قريب من منزله لكي يحصل على ما يكفي من الخبز له ولغيره.
مرة .. في أحد أوقات انقطاع الكهرباء الممتدة .. وكنت وقتها قد عدت للعمل، شعرت بأن الحياة قد باتت لا تحتمل من دون استحمام خاصة أنني أذهب أحياناً لقضاء بعض المهام خارج المكتب، لذلك انتظرت عودة الماء ودخلت الحمّام البارد وملئت وعاء الاستحمام ﻷبدأ بسكب الماء البارد هو اﻵخر بما لا يقاس على جسدي محاولاً الانتهاء من هذا الحمام الكارثي بأسرع ما يمكنني، وكلفني ذلك في النهاية تقلصاً مؤلماً لعضلات رقبتي وظهري ﻷسبوعين قضيتهما وأنا لا أستطيع تحريكهما إلا بعد ألم لا يحتمل لدرجة أنني كنت أتأوه خلال اليوم من شدة الوجع .. لكن المهم هو أن الرائحة قد ذهبت والحمد لله 🙂
كانت ساعات الليل ثقيلة الوطئة والاتصالات مقطوعة في الغالب وكان أغلب من حولي من الجيران من كبار السنّ لذلك كان الحصول على صداقات متعذراً لكني تعرفت في الفترة اﻷخيرة من حياتي هناك الى الجار الجديد الساكن في الشقة المواجهة للبيت في المبنى المقابل .. كان شاباً في مثل عمري على ما أذكر وكان يعمل قاضياً أول في محكمة ما قبل أن يتعذر عليه .. بسبب الظروف .. الوصول الى مكان عمله وقد عرض عليّ .. جزاه الله خيراً .. أن يمد خط كهرباء من بيته نحو بيتي بحيث أستعمله للأغراض الضرورية في حال أتت الكهرباء لعنده وتكون المعاملة بالمثل طبعاً والحقيقة أن الكهرباء كانت تأتي لبيته بأوقات وأزمنة أطول مما كانت تأتي لبيتي لذلك كنت أنا المستفيد اﻷكبر وقام بزيارة لي قبل أن أغادر سوريا بأيام وكان شخصاً متزناً ولطيفاً وأرجو له الخير أينما حلّ.
وعند بداية الشهر الثالث كان الجو قد أصبح دافئاً قليلاً وبدأت أشعة الشمس بالظهور فكنت أنتهز فرصة اﻷيام المشمسة لنخرج في نزهة سريعة قرب المنزل لكي لا يتحول البيت الى سجن لزوجتي وللطفلتان إضافة الى ما قد يصيبهم من الضرر من جراء الجلوس لفترة طويلة في مكان واحد.
وفي ذلك اليوم وكان يوم عطلة كنا جالسين في البيت كالعادة عندما بدأ تساقط الصواريخ حولنا، شعرنا بالفزع وبدأت الفتاتان بالبكاء اﻷولى على القطة التي اختفت في مكان ما خوفاً من أن يكون قد حدث لها مكروه والثانية على ثمار الفريز التي لم تأكلها بعد 😐 .. هدأت اﻷصوات بعد دقائق واكتشفنا بعد ذلك من كلام الجيران أن هناك منزل قد تضرر وهناك امرأة قد قتلت من جراء سقوط أحد تلك الصواريخ على شرفة منزلها.
هنا بدأت أتأكد أن عوامل الطرد أصبحت ثقيلة وجديّة .. وبدأ يهدر في عقلي ذلك الهاجس المرعب باحتمال أن أعود الى البيت في يوم ما ﻷجد صاروخاً قد أصاب ساكنيه .. هنا كان قرار المغادرة حازماً وسريعاً .. اتصلت بأهلي وأخبرتهم بذلك وكان أحد أصدقاء أخي اﻷوسط قد اتخذ قراراً مشابهاً فاتصلت به ونسّقت معه لكي نغادر في نفس العربة ثم ذهبت الى بيت عمي اﻷصغر .. رحمه الله .. لكي أعطيه نسخة من مفاتيح المنزل لكي يتفقدّه كلما أمكن.
ثم بدأت في الليل بحزم اﻷمتعة وبتفكيك الحاسب والاستغناء عن القطع الكبيرة كالشاشة والصندوق ووضع البقية في حقيبة مستقلة .. وأخذنا معنا القطة بالطبع ولكن لهذا حكاية سأرويها في وقت لاحق إن شاء الله.
وفي الصباح كانت العربة بانتظارنا .. خرجنا مع الحقائب وأغلقت الباب بإحكام ثم نزلنا وركبنا في العربة .. نظرت نحو البيت وهززت رأسي في حزن بينما كانت العربة تتحرك متجهة نحو الوطن اﻵخر .. تلك المغادرة الممتدة الى اﻵن.
أمور كثيرة قد حدثت وأمور كثيرة قد تغيّرت منذ ذلك الوقت .. عشر سنوات إلا بضعة أيام .. أمور كثيرة جعلت من هاجس العودة السريع الذي كنا نفكر به في البداية ينتهي وينقلب ليقين بأن العودة باتت مستحيلة وأن الحكاية لن تعدو .. بأفضل الظروف .. بأن تكون زيارة لمن وما بقي هناك ..
زيارة للناس وللشوارع واﻷمكنة لاستعادة ما بقي من الذكريات.
الكتابة عن ذكريات صعبة أمر صعب حقاً ومتعب للنفس لكن إبقاء هذه الذكريات حبسية الصدر متعب أكثر، الكتابة نوع من التشافي ووسيلة لصنع بداية جديدة.
شكراً لمشاركتك هذه الذكريات، وأسأل الله لك ولأهلك وعائلتك الأمن والأمان، وأن يوفقكم في دينكم ودنياكم.
أمين يارب لنا ولكم إن شاء الله … معك حق الكتابة عن الأمور والظروف الصعبة تريح النفس وتجعلها تتصالح لدرجة ما مع ما جرى باعتبار أنه أصبح من الذكريات البعيدة وهذا شعور مريح فعلاً.
الله يكون في العون، وترجع المياه الى مجاريها.
أمين يارب لنا ولكم إن شاء الله
سرد أكثر من رائع أعاد لي ذكريات أليمة حول مغادرة البيت والنزوح (تذكر ولا تعاد بلطف الله). عوضكم الله خيرًا. واستمر في سرد ذكرياتك.
أمين لنا ولكم إن شاء الله .. شكراً على كلماتك الطيبة وتشجيعك .. أصبح النزوح بكافة أشكاله أسلوب حياة للأسف لدى الكثيرين .. الانسان يبحث غريزياً عن مكان ملائم للحياة عندما يستحيل البقاء في مكانه الراهن
لم اتمالك نفسي من البكاء عند نهاية هذا السرد الرائع لما حدث لحوالي 20 مليون سوري او اكثر