أحد أيام الشهر الحادي عشر 2022
تلقيت في ذلك المساء مكالمة فيديو من أحد المعارف الذي عاد مؤخراً الى حلب .. قبلت المكالمة ولم أرى للوهلة اﻷولى سوى الظلام ثم بدأت بعدها أرى ملامح وجهه من خلال الضوء الضعيف القادم من شاشة الهاتف .. كان يقف في شارع مظلم وهو يخبرني بأنه اﻵن في شارع بيت أهلي وأنه لم يستطيع تحديد مكانه بناء على ذلك الوصف الذي أرسلته له سابقاً.
كنت قد طلبت منه إرسال بعض الحوائج الى هناك كونه يسكن قريباً من المنزل ويعرف تفاصيل المنطقة الى حد ما.
بدأت أضيّق عيني محاولاً استيعاب تفاصيل المكان من حوله .. ثم بدأت أدلّه وأشير له حتى وصل لمدخل المبنى وبدأ يصعد درجات السلم المعتم الذي بدا لي غريباً وغير مألوف .. السُلم الذي كان مضاءاً بشكل دائم طوال الليل أصبح معتماً ويكاد يخلو من أي ضوء سوى من تلك اﻷضواء الخفيفة القادمة من داخل البيوت التي لم تكن مضاءة هي اﻷخرى بشكل جيد.
تذكرت عندها تلك الكوابيس التي ظللت أراها لفترة لا بأس بها .. الشوارع المظلمة الممتﻷة بالحُفر والصمت التي تخترقه أحياناً أصوات أحاديث الناس القادمة من داخال البيوت .. بدا لي أن مشهداً قد خرج من تلك الكوابيس لأراه بعينين مفتوحتين.
كان قد وصل الى الطابق الذي يقع فيه بيت أهلي والمكون من منزلين كان يقطن أحدهما جار عجوز اعتاد أن يرافقني في اﻷيام اﻷخيرة لي في حلب لنشتري حوائج المنزل سوية ونتحدث بأحاديث شتى طوال الطريق .. كنّا إثنان يبحثان عن الوَنَس في تلك الظروف العصيبة التي تتماوج فيها احتمالات الموت في أي مكان تسير فيه وفي أي غرفة تجلس أو تنام فيها.
نظر حوله بسرعة ثم عاد لينزل من المبنى وهو يؤكد لي أنه عرف الموقع تماماً وأنه لن يتأخر في إرسال تلك الحوائج و .. و … و.
أنهيت المكالمة شاكراً له صنيعه وجلست شارداً برأس مُترع بالذكريات.
منتصف عام 2003 حتى آواخر العام 2012
في ذلك الوقت كان أبي قد فرغ صبره تماماً ولم يعد يستطيع أن يتحمل المزيد من اﻹزعاج والصراخ الذي يمﻷ الشارع يومياً حتى وقت متأخر من الليل.
كنا نسكن وقتها في حيّ اﻷعظمية .. حيّ صغير يقع على الطرف الغربي من المدينة اشترى أبي بيتاً فيه في آخر الثمانينات .. في ذلك الوقت كان هذا الحيّ هادئاً وغالب سكانه من ذلك النوع المتوازن الذي يراعي ويحترم احتياجات جيرانهم وخصوصياته، ثم مع الوقت بدأت تلك النوعية تختفي لتحل مكانها نوعيات أخرى من ثقافات محلية أخرى لم تكن تؤمن بما آمن به من سبقوهم .. القضية قضية تربية بالنتيجة وكانت هذه عنصراً مفقوداً عند العديد منهم.
وبرغم أن منزلنا هناك كان يشرف على أربعة مدارس تحوي المئات من الطلاب وكان ذلك الضجيج الذي يصدر منهم أثناء أوقات الفسحة كفيل بإصابة أي ضيف يأتي إلينا بالرعب إلا أننا لم نكن نأبه لذلك ﻷننا قد اعتدنا عليه منذ زمن طويل لكن الوضع بالنسبة ﻷبي كان مختلف ﻷنه كان يتواجد عادة في العمل خلال أوقات المدرسة وﻷنه .. كغيره من عباد الله .. كان يريد سكناً ساكناً وليس سكناً مجاوراً لشارع تقام فيه مباريات كرة قدم يومية حافلة بالصياح والشتائم.
في البداية كان أبي يخرج وينهرهم بشتى الوسائل بصوته العالي الحاد إلا أن هذا الفعل لم يعد بعد فترة يأتي بـأي نتيجة ﻷن القضية كانت كما قلت من قبل قضية تربية وكانت هذه اﻷخيرة تنحدر باستمرار مع الزمن.
هنا عرف أبي أن قضيته خاسرة فبدأ جدياً يبحث عن بيت آخر في منطقة أخرى .. ولم يكن اﻷمر سهلاً في دولة حكومتها تعشق العشوائيات ﻷنها لن تكلفها صرف أي قرش على عمليات التخطيط والبناء التي ستتسبب في خسارة الأغنياء والمتنفذين لجزء من ثرواتهم.
لذلك كانت الخيارات محدودة .. لكنه في النهاية تمكن من العثور على منزل في منطقة تقع على اﻷطراف الغربية البعيدة للمدينة .. كان يبحث عن مكان خالي من الزحام وكانت تلك المنطقة هي طلبه .. وقضى وقتها عدة أيام يمر من الشارع الذي يقع فيه البيت خلال أوقات مختلفة من النهار والليل حتى تأكد أن السكن ساكن فعلاً .. وكان هناك فرق لا بأس به في السعر دفعه للاقتراض من المصرف ليغطيه.
في النهاية جمعنا أغراضنا وبدأنا الانتقال في الشهر العاشر من تلك السنة على مدى عدة أيام حتى كانت تلك الليلة التي أصبح فيها بيت اﻷعظمية من ضمن الذكريات.
قال أبي وقتها وهو يُدير العربة ويبتعد عن المنطقة كلها :
- كنت أخشى أن أموت قبل أن أنتقل من هنا …..
في ذلك الوقت كان قد مضى على انتهائي من خدمة الجيش أشهر قليلة وكنت قد بدأت بالعمل في تلك الشركة التي قضيت فيها أكثر من عشر سنوات من عمري .. كانت بداية مرحلة جديدة وجاء الانتقال الى المنزل الجديد كإضافة إيجابية لتلك المرحلة ﻷسباب عديدة أهمها أنه كان أجمل وأوسع من القديم وغرفه مقسّمة بشكل أجمل باﻹضافة الى أن مطبخه كان مُربعاً وأكبر بمراحل من مطبخ البيت القديم وسمح لنا هذا بأن نتناول الطعام على الطاولة التي وضعناها في أحد أطرافه.
البيوت كالبشر منها الذي يفعم روحك بالراحة واﻹيجابية ومنها ما يُشعرك بالهمّ وكان البيت الجديد من النوع اﻷول بامتياز أضف إليه ذلك الشعور .. الذي كنت أشعر به وقتها .. بأن الحياة قد بدأت تصبح أجمل بعد أن انتهت سنوات الدراسة والخدمة العسكرية وحصلت على عمل براتب مرتفع والحمد لله مقارنة برواتب تلك الفترة.
كانت تلك فترة انتقالي من الحياة ضمن قوالب من المستحيل بالنسبة لي كسرها الى وضع أستطيع من خلاله اختيار نمط حياتي اليومية .. لا أزعم أنني وصلت لمستوى مثالي لكن على اﻷقل وحتى في أوقات العمل كنت أستطيع ممارسة هواياتي في استكشاف العديد من جوانب التقنية التي أهتم بها والتي أدت لتغيير مساري المهني داخل الشركة من محاسب الى المسؤول التقني في مكتب المبيعات .. المعاون التقني كما كان يحلو لمديري أن يلقبني :).
خارج أوقات العمل كانت لي خياراتي اﻷخرى ..
السير وحيداً في أحياء وشوارع وسط البلد وكانت هذه عادة شبه يومية تستحق أن يكتب عنها بشكل مستقل في وقت قادم ..
شراء الكتب والمجلات من باعة الجرائد ومكتبات وسط البلد ومن ثم قضاء ساعات المساء والليل في قراءتها حتى آخر صفحة .. لم أكن أملك وقتها ترف شراء الكتب وتأجيل قراءتها لوقت آخر ولم أكن حتى أطيق صبراً لفعل ذلك.
كل ذلك ولّد في نفسي ذلك الشعور اﻹيجابي الذي كان يرافقني من بداية استيقاظي واستعدادي للذهاب نحو العمل حتى الساعات القليلة التي تسبق نومي والتي كنت أقضيها إما أمام شاشة الحاسب أو من خلال قراءة أحد الكتب كأعداد ما وراء الطبيعة أو ملف المستقبل أو مجلة العربي وما شابه .. كنت وقتها من هواة السهر حتى الصباح في اﻷيام التي تسمح بذلك أو حتى ساعة متأخرة في اﻷيام الاعتيادية.
ذلك الشعور التي لم تستطع المشاكل والمنغصات التي لا بد أن تكون في حياة كل منا أن تنال منه وتطفئه مع أن من السهل جداً أن تنفخ على شعور إيجابي وتطفئه على حين أن عليك أن تحاول مراراً إزاحة الهموم من على كاهلك بلا جدوى.
وبعد ذلك بشهور كنت أقضي .. الى جانب كل هذا .. بعض ليالي اﻹسبوع في الاستماع الى تلك الحفلات القديمة التي كانت تبثها إذاعة الأغاني المصرية بعد منتصف الليل والتي تحوي فقرات وأغاني من الصعب أن تسمعها .. في ذلك الوقت .. من مصدر آخر .. سجّلت بعض منها أيضاً عن طريق كرت الدش الذي اشتريته بسعر لا بأس به وركّبته على الحاسب لكي لا أزعج أحداً بسهري خاصة أبي الذي كان يحب النوم قرب المدفئة في ليالي الشتاء.
وتلك العادة الغير صحية بالمرة في تناول العشاء في وقت متأخر من الليل .. وأنا لا أدري كيف كانت معدتي تستطيع تحمل هذا إن كان مجرد تخيل تلك العادة في الوقت الراهن سيجعلها ترمقني بنظرة صارمة متوعدة بليلة خالية من النوم إن تجرأت وحسبت نفسي مازلت ذلك الجَدَع الذي يستطيع أن يشق غمار الموائد من دون أن يطرِف له ضرس.
كان البيت مُبهجاً وواسعاً وكانت حياتنا معه قد تغيرت وحتى استقبال الضيوف كان له طعم مختلف وبخاصة أن اتساعه قد سمح باستقبال زيارات عمّاتي الصيفية من دون أي مشاكل تتعلق بأماكن النوم .. تلك الزيارات التي كانت تعني لنا قضاء اليوم بين زحام العائلة وضجيج الكلام والضحكات.
كانت نافذة المطبخ غربية والشمس تمﻷ أرضه خلال وقت العصاري .. تلك الشمس التي تُغريك بأن تكتسي بها جالساً في إحدى الزوايا لتستمع الى أغنية ما تناسب المشهد .. لايق عليك الخال ياللي الهوى خالك .. مع صوت قِدر الطعام المتململ الباحث عن يد تريحه وترفع عنه الغطاء .. تلك الساعة المرهفة التي لا تشبهها أي ساعة من ساعات النهار.
وفي السنوات القادمة وبعد أن قام أبي بتوسيع شرفة المطبخ لتصبح مكان سهراتنا الصيفية الليلية ومكان تناول إفطار رمضان الذي كان يأتي في الصيف .. مرة قال لي خالي وأنا صغير أن رمضان يمر بكل أشهر السنة خلال أربعين عاماً تقريباً .. كان رمضان وقتها يأتي في الشتاء وكبرت وعاد رمضان ليأتي مرة أخرى في الشتاء .
كنا نتحلق في الشرفة جالسين حول المائدة ننتظر اﻷذان على وقع النسمات الرحيمة التي تُزيل من صدورنا هواء النهار الساخن وقد وضعنا تلفازاً صغيراً في إحدى زاويا الشرفة لكي نستمع لتلك الابتهالات التي كانت تبث في ذلك الوقت .. وكان عمي اﻷصغر يحلُ ضيفاً علينا هو وزوجته في غالب أيام رمضان بحيث كان وجوده معنا جزء من تقاليدنا المرتبطة بشهر رمضان .. عمي الذي فاجأه ذلك المرض ولم يمهله سوى إسبوعين وهو بالكاد قد بلغ الخمسين ورحل بعدها في أول هذا الشهر .. رحمه الله وغفر له.
ولم يفقد البيت بريقه حتى عندما تزوجت وانتقلت لبيت آخر .. كان هناك دائماً ليعيد لي في كل مرة أزوره فيها ذكريات تلك اﻷيام التي لا بُد أن تنقضي كغيرها من اﻷيام .. أيام انتهى وقتها ولن تعود مهما حاولنا.
وجاء ذلك اليوم الذي وصل القتال فيه للمنطقة التي أسكن فيها وجاء أبي في الصباح ليأخذنا الى البيت الذي كانت منطقته مازالت بعيدة عن دائرة القتال .. ثم سافرنا بعدها بأيام لتركيا وبقية هناك ﻷقل من شهر ثم عدت أنا وأسرتي الصغيرة إليه وبقي أهلي هناك في تركيا.
وخلال ستة أشهر حصلت أمور عديدة تستحق أن أتكلم عنها في جزء آخر إضافة الى أني لا أريد أن تطول هذه التدوينة أكثر من ذلك.
البيوت حكايات .. منها ما تظل عالقة في أذهاننا طوال الوقت ومنها ما يطفو فجأة قادماً من أعماق ذكرياتنا وقتما يستدعيه أمر ما يمر من أمام حواسنا لنستعيد بشكل خاطف بعضاً من تلك الحكايات .. حكاياتنا وذكرياتنا وبيوتنا.
أسلوبك القصصي رائع. لقد تخيلت بيتكم كما لو أني أعيش فيه..
شكراً على كلامك الطيب 🙂
سقى الله تلك الأيام . جميل جدا
شكراً على وقتك وكلامك الجميل
جميل جدا واصل الكتابة حول ذكرياتك
ذكريات الزمن الجميل