منتصف 2014 وحتى منتصف 2016
فتحت عيناي وتأملت المشهد حولي .. الغرفة شبه مظلمة وضوء الممر يأتي من أسفل الباب .. شعرت بتلك الانقباضة التي لم تكد تفارقني لسنوات عديدة .. تنهدت وقمت بعدها وارتديت ثياب الخروج وتأكدت من وضع المريولة في جيبي وخرجت من الباب .. سرت قليلاً ونظرت بعدها للشارع المليء بالثلج .. تنهدت مرة أخرى وبدأت المشي ببطء متجهاً للعمل.
بالنسبة لي كانت السنوات الأولى التي تلت استقراري في تركيا سنوات صعبة لأنني غرقت خلالها في طبقات سميّكة من الغربة .. الغربة عن البلد الذي نشأت وتعلمت فيه واكتسبت الأصدقاء وكان لي ذكريات كثيرة من خلال سيري شبه اليومي في شوارعه .. والغربة عن اللغة وما أنتجه ذلك من عوائق منعتني من أخذ مكاني الطبيعي الذي يُمليه تعليمي والخبرات التي اكتسبتها خلال سنوات العمل الطويلة في الشركة التي كنت أعمل بها في حلب.
هكذا كان عليّ القبول بأعمال لم أتخيل قط القيام بها، وأنا لا أقول هذا الكلام من باب التكبر لا سمح الله، ولكن المكتسبات التي تنالها خلال حياتك هي التي تحدد مكانك في المجتمع سواء أكان محيطك الثقافي أو محيط العمل أو حتى محيط أصدقاءك ومعارفك، لذلك لن تستطيع مطلقاً تقبل كونك مطالب بالعمل بمعزل عن المحيط الذي اعتدت عليه، ولكن عندما تكون في غربة فأنت لا تملك ترف الإختيار والعمل شيء لا مفر منه إلا لو كنت تريد أن تقوم بدور معدوم الحيلة الذي ينتظر المساعدة من الناس ولم يكن هذا الخيار وارداً عندي أبداً لذلك كنت أقبل أي عمل يعرض عليّ مهما كان متعباً أو قاسياً .. كان المهم بالنسبة لي أن تعيش عائلتي بشكل طبيعي قدر الإمكان.
جربت أعمالاً متنوعة لدرجة أنني أصبحت مسبّع الكارات حرفياً، عداك عن الأعمال التي عملت بها ليوم أو يومين ثم تركتها غير أسف عليها، عملت مرة بمصنع لإنتاج الجبنة السائلة واكتشفت أنهم يريدوني أن أعمل من الصباح الباكر حتى منتصف الليل بحيث لا يبقى لي من اليوم غير بضع ساعات لا تكفي للنوم حتى .. هكذا غادرت المصنع ولم أعد قط.
كان العمل الأطول عمراً بين تلك الأعمال .. سنتين تقريباً .. هو صنع الفطائر التركية التي تسمى ” poaçalar ” وهو نوع شعبي من طعام الإفطار يؤكل في الصباح مع الشاي.
بدأت القصة عندما عرض عليّ صاحب متجر حلويات العمل عنده .. كنت وقتها أبحث عن عمل أفضل من تقطيع الأخشاب الذي كان متعباً وخطراً، لذلك قبلت بدون تردد.
كان عملي في البداية صنع نوع من الحلوى يسمى ” Tulumba” وهو تشبه لقمة القاضي ولكن بشكل ومقادير مختلفة، كان هناك عجينة توضع بإناء كبير على نار هادئة وعليّ دعكها بسرعة بعصا طويلة حتى تصبح لينة وجافة قليلاً ثم تخلط بخلّاط كبير مع بعض البيض توضع بعدها بماكينة تعطيها شكلها المحزز وتوضع بعدها بزيت مغلي حتى تنضج ثم تُغمر بالقطر وتصبح جاهزة للبيع.
عملت لأشهر بها قبل أن يحصل خلاف بيني وبين صاحب العمل .. كانت ليلة وقفة العيد وكان مطلوب مني أن أصنع كمية كبيرة وكان هناك شاب تركي من المفترض أن يساعدني .. بدلاً من ذلك ذهب للنوم .. فغضبت وانفجرت بعدها في وجه صاحب العمل ووجدت نفسي بعدها مطروداً 🙂
بقيت في البيت لمدة شهر من دون عمل .. كانت هذه أطول فترة قضيتها عاطلاً عن العمل في تلك الفترة .. وكانت هذه مشكلة حقيقية لأن البيت بحاجة لمصروف يومي لذلك ذهبت في نهاية الأمر واشتريت بعض الفطائر ” البواشا” وذهبت لأبيعها في البازار الأسبوعي، الحقيقة أنني لم أتمكن من بيعها بالكامل وبقي منها ما يكفي لإفطار العائلة.
في نفس اليوم عرض عليّ خال صاحب المعمل الذي طردت منه أن أعود للعمل كمساعد للأسطى الذي يقوم بعمل نفس الفطائر .. لاحظ القسمة 🙂 .. وافقت بالطبع وفي المساء كنت أتجه الى المعمل لأبدأ أول يوم لي كصانع “بواشا”.
كان هذا العمل يتم في الليل لكي تصل الفطائر للمشترين ساخنة وطازجة .. لذلك كان العمل يبدأ من التاسعة مساءاً لينتهي حوالي السادسة صباحاً بشكل يومي ومن دون أي عطلة إلا يوم أو يومان في السنة على الأكثر في عيد الفطر وعيد الأضحى.
كان العمل يبدأ بصنع كتلة عجين ضخمة للسميط وما شابهه بعدها يقوم الأسطى بتقطيع تلك العجينة الى قطع صغيرها بعدها يبدأ تشكيل تلك العجائن الى شكلها النهائي ثم تكرر العملية مرة أخرى مع إضافة الزبدة لقطع العجين أو حشيها بالجبن أو الزيتون الخ… نضع الفطائر الغير مخبوزة بعدها لتختمر في فرن خاص ثم تخبز في آخر الليل في فرن آخر.
كان العمل متعباً جداً خاصة أن توقيته هو نفس توقيت ساعات النوم علاوة على أني لم أكن أستطيع أن أنعم بلحظة سكون خلاله لذلك فقدت خلال أشهر قليلة حوالي العشرين كيلو من وزني.
كان يصل عدد الفطائر التي نصنعها لأكثر من ألف ومئتي قطعة يومياً وهذا عدد ضخم حقاً على شخصين لذلك كنا لا نهدأ طوال الليل حتى ننجز هذا العمل اليومي الذي كنت أشعر بأن لا نهاية له لعدم وجود يوم إجازة.
وببطء ومع مرور الوقت بدأت أتقن هذه المهنة لدرجة أشعرت العاملين من حولي بالدهشة لأن المتعارف عندهم أنه من الصعب حصول ذلك مع شخص بعمري ولكني قد قررت وقتها أنه حان الوقت لتعلم صنعة محددة لأعمل بها بعد أن كدت أفقد الأمل بأن أعود لحياتي الطبيعية.
لم يُعجب هذا الشيء الأسطى الذي أعمل معه، الحق أنه لم يكن إنساناً سيئاً ولكن التفكير في المصلحة الفردية بشكل مزمن وتوقع الأسوء من دون الاعتقاد الحقيقي بأن الرزق على الله جعله يفكر على ما يبدو بأنه ليس من مصلحته أن أتقن ما أفعله أو أن أبقى في العمل من الأساس، في العموم كان الأوان قد فات على ذلك لذلك بدأت معاملته لي تتغير لطريقة خشنة وخاصة بعد أن بدأ خال صاحب المعمل بالعمل معنا بدعوى مساعدتنا، لكن الأسطى كان يرى الأمر بمنظور آخر .. كان يرى نفسه خارج المعمل.
لذلك جاء ذلك النهار الذي لا مفر منه، ليلتها كنت مرهقاً بشدة وكنت بدأت أفقد قدرتي على تحمل تصرفاته وخشونته معي، طلب مني أن أنظف المكان قبل أن أنصرف ولم تكن هذه مهمتي، وهنا كان زر النهاية، رميت المريولة وخرجت من المعمل ولم أعد إليه.
لم تكن هذه نهاية علاقتي مع هذه الصنعة .. هناك تكلمة للحكاية ولكن في مكان آخر وفي تدوينة أخرى إن شاء الله.
التضحية من أجل العائلة شي جميل.
هذا هو أيضاً المعنى الجوهري لمسؤولية تكوين عائلة وتختلف هذه التضحية باختلاف الظروف .. أبعد الله عنا وعنكم السيء منها.
أقرأ هذه التدوينة وأنا مغادر من أسطنبول. جانب مؤلم من حياتك كطباخ وعامل في مجال الخبز.
بالطبع لن يعلمك الاسطا كل الأسرار لأنه يخشى أن تستبدله. لذلك إن أظهرت مهارة وسرعة في التعلم سيعاديك.
وفقك الله وأتمنى أن يكون حاضرك أفضل.
أرجو أن تكون قد قضيت وقتاً جميلاً في اسطنبول .. تغيير نمط الحياة مربك جداً وخصوصاً لو كان التغيير يمس أسلوب حياتك بشكل جذري .. معك حق لن يعلمك الأسطى كل شيء وسيخاف منك لو أظهرت اختلافاً عن غيرك .. سترى هذا في أغلب أماكن العمل تقريباً .. أتمنى لك أيام سعيدة عزيزي معاذ وشكراً على وقتك وتعليقك