قبل منتصف الستينات من القرن الماضي كانت شركة الكهرباء في حلب شركة مساهمة أهلية بحيث يستطيع أي مواطن شراء أسهم والحصول على أرباح منها وهذا ما فعله المؤرخ خير الدين الأسدي رحمه الله.
وحدث في عام 1964 ما يسمى بالتأميمات الاشتراكية صُودرت بموجبها مئات الآلاف من الأراضي وعشرات المعامل وأعطَى بعدها من لا يملك لمن لا يستحق.
من بين الشركات التي صُودرت كانت شركة الكهرباء، ووجدَ بعدها خير الدين الأسدي الستينيّ نفسه مفلساً فذهب الى غرفة النوم وأغلق الباب ووقف أمام المرآة المثبتة على الباب الأوسط لخزانة الملابس وجرى بينه وبين نفسه الحديث التالي :
- مرحباً خيرو.
- أهلين أبو الخير (مع ضحكة خفيفة).
- كيف حالك وأخبارك؟
- أخباري!؟ .. كما ترى “عايف حالي” وأخباري زفت .. جميع ما حوّشته خلال عمري قد ضاع وأمّمته الحكومة.
- نعم … سمعتُ ما سمعتَ ورأيتُ ما رأيتَ .. طيب .. ماذا حدث مع الحاج ابراهيم عندما سمع بالخبر؟
- أصيب بجلطة ودفنوه منذ قليل.
- طيب وحج محمد ؟
- رأيناه يتكلم مع نفسه في الشوارع، أتت بعدها دورية شرطة وحملته الى العصفورية.
- طيب والحاج أبو صطيف ماذا جرى له ؟
- أصابه الشلل وهو الآن في المستشفى.
- وأنت !!؟
- جئت لعندك لأسئلك، ماذا أفعل برأيك ؟؟
- تماااام … اسمع يا خيرو .. عندك خيارين لا ثالث لهما .. إما أن تضحك وتتحمل وتنسى ما جرى وإما عندك المقبرة أو العصفورية أو المشفى .. ماذا تختار؟.
- وهل هذه خيارات !!؟ .. لا مفر من الضحك إذن (بدأ يضحك ضحكة خفيفة).
- هل تسمي هذه الضحكة الصفراء ضحكة !!؟
- لا أستطيع أن أضحك غيرها.
- اضحك يا خيرو.
- لا أستطيع.
- اضحك يا خيرو .
وغرق خير الدين الأسدي بنوبة ضحك وتجاوز أزمته بعدها.
لاشك أن الحديث عن أنفسنا أصعب بكثير من الحديث عن الشخصيات التي عرفناها أثناء الحياة، بحيث لو حاولت فعل ذلك فستحاول .. بالمقابل .. نفسُك الخائفة من شيء مبهم اسمه كلام الناس أن تمنعك بقوة وإصرار بعد أن خاب أملها بذلك الطفل المدلل الذي يحاول فضح تلك الأسرار الخفية التي تم الاتفاق بينك وبينها مسبقاً على أن تبقى طيّ الكتمان مهما بدت عادية وغير ذات قيمة.
لكنه ذلك السور شديد السماكة والعلو الذي نحاول دائماً إحاطة أنفسنا به لمنع الآخرين من رؤيتها على حقيقتها أو الاقتراب منها، ذلك السور الذي لا يخلوا من فجوة أو ثغرة قد تفضحنا في موقف ما بطريقة لم تكن في الحسبان بحيث ننتفض غاضبين محاولين سد تلك الفجوات وإبقاء السور عالياً منيعاً براقاً كما نحب أن يشاهدنا الآخرون لا كما نبدوا على حقيقتنا.
هذا الفاصل العالي المنيع بين الصورة المثالية كاملة العِصمة التي نريد أن يرانا البشر من خلالها وصورتنا الحقيقة هو ببساطة الطريق الأكثر ضماناً لكي نُصاب بشتى العقد والنكوصات النفسية التي تأتي من كوننا تائهين بين ماهيتنا الحقيقية وتلك الأوهام التي نختبأ ورائها متصورين أن الحياة ستغدو أكثر روعة كلما تمسكنا بها مع ذلك الهاجس الذي يجعلنا نصاب بالرعب كلما فكرنا في احتمال أن نُجبر على الوقوف ذات مرة أمام المرآة نازعين عن أنفسنا كل تلك الطبقات الوهمية محاولين التصالح مع ذلك الذي يقف على الطرف الآخر والذي هو بالنتيجة نحن من دون زيادة ولا نقصان.
لقد جرّب خير الدين الأسدي تلك المصالحة مرة ونجح وخلّصه هذا النجاح من الموت أو ما هو أسوء، وسأحاول أن أقف أنا الآخر أمام تلك المرآة مجرباً ما قد جربه خير الدين …
هل سأنجح !؟ .. لا أعلم ولو حدث ذلك سيكون في الغالب نجاحاً جزئياً .. دعنا لا نستبق النتائج ولأقترب من المرآة وأبدأ بالنظر والتأمل.
النظرة الأولى
بداية أريد أن أقول بأنني شخص يُقدر القيم والمبادئ الأخلاقية كثيراً ويعتبر بأنها الأدوات التي يجب استعمالها في كل كبيرة وصغيرة ويجب أيضاً أن تكون هي المعيار الحقيقي في تقييم البشر.
قد تظن أن هذا الكلام جميل وبديهي وأنني فشلت في الوقوف أمام المرآة حتى قبل أن أبدأ.
لكن الحقيقة أن هذا المعيار من أشد الأشياء السلبية في شخصيتي.
لماذا !!؟
لأن هذا المعيار غير صالح للحياة فالناس تنظر الى الأمور بنظرة المصلحة الشخصية بحيث من الممكن أن ترى شخصين لا يجمع بينهما أي شيء مشترك ومع ذلك تراهم شديدي الالتصاق ببعضهم والسبب هو مصلحة مشتركة لدرجة أن أحدهما قد يبدو لك ملاكاً والآخر شيطاناً زنيماً، طبعاً سيكف الملاك عن كونه كذلك بمجرد أن يأتي بملعقة ويجلس ليتعشى مع الشيطان ولكن المظاهر خدّاعة وقد قامت بخداعي مرات عديدة والأفعال ومخرجاتها هي الفيصل بالنتيجة.
الناس لا يهمهم .. في الغالب .. أيّ معيار أخلاقي وحتى ولو كان له قيمة ما في نفسهم فهم لا يترجمون هذه القيمة لأي رد فعل بحجة أن الدنيا هكذا وأنهم لا يستطيعون تغيير الكون، فقط عندما يشكل فعل ما ضرراً لهم عندها يبدؤون بكيل الشتائم لعديم الأخلاق الذي تسبب لهم بذلك الضرر!!!!.
كان هذا المعيار ومازال متعباً جداً بالنسبة لي لأن معنى ممارسته هو أن تبتعد رويداً رويداً عن الناس بعد أكوام الاحباطات والأذى التي ستنهال عليك منهم لأنك ببساطة لا تتصرف بموجب دفتر الارشادات المعتمد لديهم والذي جعلهم يكتسبون .. مع الوقت .. طبقات سميكة تمنعهم من النظر الى الأمور بأي منظور آخر غير مبدأ : أنا فقط والبقية لهم الطوفان.
النظرة الثانية
أنا شخص سريع الغضب جداً بحيث لا يستغرق وصولي لمرحلة الانفجار سوى ثوان معدودة، وبعدها حدّث ولا حرج بما يمكن أن يحدث مني من ردّات فعل لا أعتبرها غير محسوبة وبالعكس تماماً أشعر في أغلب الأحيان أنني لم أغضب بما فيه كفاية الموقف.
لكن من طرف آخر أنا سريع الرضا وخاصة لو اكتشفت أنني كنت مخطئاً في غضبي وأن الأمر ليس كما كان يبدو لي 😊.
النظرة الثالثة
قال لي أحدهم مرة : مشكلتك بأنك لو أحببت شخصاً فسترفعه مباشرة لسابع سماء وإذا كرهته ستنزل به الى سابع أرض.
أعتقد أنه كان محقاً بكلامه بشكل كامل، أنا هكذا فعلاً لدرجة أنني قد أعادي من أحببتهم من قبل بشكل يشعر من حولي بالدهشة من جرّاء التغيرات الحادة التي قد تصيب موقفي وتعاملي معهم وهذا موطن خلل كبير لأن إنزال الناس منذ البداية بمقاماتهم الحقيقية هي موهبة عظيمة حقاً وتريحك من تعب إعادة اختراع العجلة بدلاً من الاعتماد على الشواهد التي تحاول جاهدة أن تريك ذلك الشخص على حقيقته التي يحجبها عنك ذلك الحب الذي تكنّه له لتكتشف في وقت متأخر أنها كانت مشاعر خادعة وغير مبنية على أي حقائق.
النظرة الرابعة
أنا شخص فقدَ في ظروف مجهولة ذلك الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال على غرار ذلك الاتفاق الضمني الذي يحدث بين الكاتب والقارئ ” دعني أخدعك .. دعني أنخدع”.
بنظرة إيجابية قد يكون هذا المبدأ مفيداً أثناء قراءتك لقصة ما أو مشاهدتك فيلماً لأنك ستنال المتعة كاملة بشتى انفعالتها ولكنها هذا الأمر سيولّد في نفسك الكثير من الحزن.
النظرة الخامسة
بشكل عام أنا شخص هادئ أحب القراءة وأصبحت مع التقدم في العمر أميل الى العزلة وعدم مخالطة الناس، ولكن هذا لا يمنع أبداً أن تراني ودوداً محباً لتبادل للكلام والأحاديث لو حدث مرة وتقابلنا عن طريق الصدفة.
أعتقد أن خمس نظرات تكفي لأننا لن ننتهي لو تركنا الحبل على الغارب، جميعنا يحب التكلم عن ذاته ولكن تلك الرقابة الصارمة وذلك الخوف من الانتقاد يمنعاننا من التحدث سوى عن تلك الطبقات البرّاقة السميكة الخادعة التي تغلّفنا مدعية بأنها نحن وهي مجرد هياكل تحوي ذلك الذي لا نحب أن نقف أمام المرآة .. ولو لمرة واحدة في العمر .. لنعرف حقاً من يكون.
هذه التدوينة جزء من مبادرة حدثنا عن نفسك
مرحى! لقد قمت بتنصيب قسم تعليقات، هذا امر جميل.
يسرني أنك كتبت هذه الفقرة. إنها طريقة مميزة للتعريف بنفسك.
لم أنتبه لعدم إتاحة التعليقات في البداية ونبهني أحد الأصدقاء واكتشف بعدها أن أحد الاعدادات في القالب قد حجبها.
وأنا سعيد لأن التدوينة قد أعجبتك
كامل التحية