أصوات لهاثك وصلت لي قبل أن أراك والحقيقة أنني لم أتوقع أنها أصوات لهاثك أنت ..

يبدو أن صحتك لم تعد كما كانت في السابق .. برغم الدرجات العالية وحقيقة أن المبنى يخلو من وجود مصعد وتلك الحقيقة الأخرى التي لا نعرفها يقيناً إلا بعد أن نختبرها بأن الزمن يمضي بسرعة إلا أني مندهش حقاً من أن يصدر اللهاث منك أنت بالذات.

لكن .. لن أبدأ بالحديث عن الماضي والذكريات حتى لا يتحول لهاثك الى ذبحة صدرية وتموت وتوضع في رقبتي.

تعال واجلس بجانبي والتقط أنفاسك بهدوء ..

ماذا جلبت معك .. هه .. ناولني .. أها .. هذه بطيخة جميلة حقاً وأرجو لك أن تكون كذلك من الداخل أيضاً .. على الأقل هناك أمل ما بأن تكون حمراء وحلوة على عكس الكثير من البشر ..

اختبار البطيخة يكون بأن تشقها نصفين وترى ما هنالك بعكس اختبار البشر الذي لا يحصل إلا بعد أن تُشق أنت شخصياً.

دعنا من هذا الآن …

أتدري … يمر علينا في أوقات معينة نكون بها غاية في الهم والألم والقهر بحيث تكون الحياة أبعد ما تكون عن كونها حياة .. أو لنقل بأن توصيف الموت في ذلك الوقت هو أقرب بكثير من توصيف الحياة ..

وفي خضم كل هذا يحدث أمر ما يجعل تلك الأحاسيس تغادر الى خارج مجال الوصف .. شيء يفوق أي قدرة لنا على الوجع .. حدث هذا سابق مع أناس كثيرين ويحدث كثيراً هذه الأيام .. فلسطين .. البوسنة .. الكويت .. العراق .. الله وحده يعلم ماذا سيحدث في المستقبل .. هناك شيء حدث هنا من قبل ولكني لن أتحدث عنه الآن و …

لماذا قمت بسرعة !!؟ .. توقف وخذ بطيختك .. هاك .. لقد أصبحت تلهث من الخوف هذه المرة .. لا عليك .. أنا أعذرك يا صديق الصبا .. تعال وخذ بطيختك وأدعو لك أن تكون حمراء وحلوة هذه المرة على الأقل.

هل هذا صوت جرس دراجة !؟؟ ..

يبدو أن الحكاية قد بدأت فعلاً.

* * *

سحب عماد جنزير الدراجة من حول عجلتها الأمامية وأعاد لفه وربطه حول هيكلها .. حمل الدراجة ونزل بخفة حتى نهاية درج المبنى وهو يضغط على جرسها بتتابع ودفعها أمامه وهو يضع قدميه على البدّالات لتنساب الدراجة بسرعة عبر الطريق.

يوم عمل آخر قد بدأ .. يوم العمل الأخير في الأسبوع ويوم الغد هو يوم عطلة حافل بالأحداث .. وجبة الفول الصباحية ومن ثم الصلاة وبعدها لعبة أتاري مع الأصحاب .. الذهاب لتناول المثلجات عند ذلك المحل قرب السجن القديم .. ربما في المساء أيضاً مشاهدة فيلم جديد عند رياض .. لا بأس .. لا بأس أبداً.

ليدع الغد للغد وليفكر الآن بتلك الطلبية الكبيرة التي بشره بها صاحب المشغل مساء البارحة .. سيكون عليه الجلوس أمام ماكينة الخياطة طوال اليوم ولعل القسمة تسعفه بإكمالها وإلا فالويل له وليوم العطلة أيضاً.

سيحُرم كذلك من أوقات الاستراحة ولن يستطيع الخروج لاستنشاق الهواء الخالي من زغب الأقمشة واختلاس نظرات سريعة خجول نحو المشغل القريب .. النظرات التي يحاول جاهداً تأمين النقود اللازمة لكي تتحول الى عائلة وأطفال يكبرون ليصبحوا أخوة له.

كان قد اقترب من نهاية الشارع الواسع .. ألقى نظرة سريعة نحو إشارة المرور الخضراء وتابع طريقه بسرعة ثابتة .. سمع صوت زمور عال قادم من يمينه وشعر بحائط يصدم به … سقط على الأرض ومن ثم عاد للنهوض مترنحاً ليسقط مرة أخرى قبل لحظات من مرور عجلة ضخمة من فوق رأسه مباشرة.

* * *

من أكثر الأمور التي تميز ذلك المبنى في باب الحديد أنه بني عبر فترة طويلة من الزمن لذلك كان من المألوف أن يكون خال من أي تناسق في بعض تفاصيله وبالأخص تلك الشرفة الصغيرة الواقعة على الطرف الخلفي من المبنى .. الشرفة الوحيدة في ذلك الجزء منه.

الواقع أن وجود تلك الشرفة هي ما دفع الشيخ عبد الرحمن لشراء المنزل .. كان يريد منزلاً صغيراً يسعه هو وزوجته وحفيده ويحوي شرفة يستطيع الجلوس فيها من دون أن يكشف على أي بيت من بيوت الجيران ووجد ما يريده في هذا البيت تحديداً.

أسند ظهره على المخدة وأغمص عينيه محاولاً تحسس بعض النسمات الرحيمة .. سمع وقع أقدام خفيفة وشعر بزوجته تجلس بجانبه وهي تضع شيئاً ما على الأرض بجانبه .. فتح عينيه وشاهد كأس عصير الليمون المثلج وابتسم.

سألها وهو يأخذ رشفة :

صمتت فاطمة والتمعت عيناها بالدموع بينما تابع الشيخ عبد الرحمن كلامه :

تصاعدت دقات متلاحقة من باب الشقة فهرعت فاطمة وهي تبسمل نحوه .. سمع الشيخ عبد الرحمن بعدها صوت نحيبها .. حاول الوقوف فلم تساعده قدماه وبقي يصيح بصوت واهن :

***

سكت ذلك الكهل الذي يرتدي ملابس عسكرية قليلاً ثم رشف الرشفة الأخيرة من فنجان القهوة وعاد ليقول بنبرة ساخرة:

ثم ضحك قليلاً وقام وهو يقول بصرامة:

وغادر البيت لتدخل فاطمة وتجلس صامتة بعيون لا تكف عن الدموع.

نظر لها الشيخ عبد الرحمن وقال بصوت مبحوح :

بقيت تبكي في صمت .. بينما عاد الشيخ عبد الرحمن يردد :

بقي السؤال عالقاً في ذهنه حتى ظهر اليوم التالي حيث كان يقف أمام باب المبنى مع صلاح أخو زوجته بعد أن خرجا من الجامع القريب ..

توقفا أمام باب المبنى ليلتقطا أنفاسهما قليلاً .. شعر الشيخ عبد الرحمن ببعض الدوار فاستند على الجدار وأغمض عينيه بقوة ثم عاد ليفتحهما ليرى جاره العجوز أبو عدنان يقف على الطرف الآخر من الشارع محاولاً تجاوزه للطرف الآخر نحو مدخل المبنى .. كان ينجح أحياناً في الوصول لمنتصف الشارع ليلمح سيارة قادمة من بعيد فيتقهقر في خوف عائداً مرة أخرى لبداية الطرف الآخر ليعود للمحاولة من جديد.

كان صلاح يراقب المشهد أيضاً في صمت .. ثم التفت نحوه وتنحنح قائلاً :

نظر له الشيخ عبد الرحمن وسأله في همّ:

هز الشيخ عبد الرحمن رأسه في عنف قائلاً :

صمت صلاح وهو يعقد حاجبيه ساهماً .. ثم نظر الى أبو عدنان الذي لا يزال يحاول قطع الشارع بلا جدوى وتحرك نحوه بعدها في تصميم وأمسك بيده وقطع به الشارع في سرعة وعصبية .. وتركه قبل أن يفرغ من عبارات الشكر والدعاء وعاد للشيخ عبد الرحمن وقال بسرعة :

ثم أمسك بيد الشيخ عبد الرحمن وبدءا بالصعود نحو المنزل.

***

نظر الشيخ عبد الرحمن لابنه وهما يدخلان سوية نحو الصالة المزدحمة في صمت ..

هذا الشاب الذي يقترب بالكاد من نهاية الثلاثينات بدا بنحافته وجلده المتغضن وكأنه أكبر من جميع الموجودين الذين كانوا يتأملونه بصمت مماثل كانت تقطعه بعض عبارات التهنئة والترحيب التقليدية من هنا وهناك.

صباحاً .. عندما دخل أول مرة الى البيت كان كل ما لديه هو الصمت .. بعبارات بسيطة كان طلبه الأول هو الاستحمام .. دخل مسرعاً وخرج مسرعاً وكأن هناك من يطارده .. أخذ يزدرد الأكل بسرعة وعيناه تدوران في محجريهما في خوف ..

كان كل ما لديه هو الصمت .. حتى عندما يأتي دور الكلام.

أجلسه في صدر الصالة وجلس بجانبه وبدء بتبادل بعض الأحاديث العشوائية مع الضيوف وهو يختلس نظرات سريعة نحو صلاح بين الحين والآخر.

في لحظة ما وبلا مقدمات أخذ أحمد يتلفت حوله في سرعة وكأنه انتبه لازدحام الصالة لأول مرة ثم أدار وجهه نحو أبيه وقال بسعادة :

ساد صمت ثقيل وهمّ الشيخ عبد الرحمن بالكلام فأوقفه صلاح بإشارة حازمة من يده واستدار مخاطباً أحمد في رفق:

هز أحمد رأسه في عنف قائلاً:

وسكت أحمد وعاد لجموده … كما تكلم فجأة عاد للصمت فجأة.

بدأت الهمهمات بالانتشار عبر الصالة .. نظرات الأسف وبعض العيون المحمرة .. أطرق الشيخ عبد الرحمن قليلاً ثم رفع رأسه ليتبادل نظرات دامعة مع صلاح.