تعالوا نترك السطح وحكاياته هذه المرة ولنهبط لأسفل المبنى … نحو تلك الغرفة التي تقع بعد مدخل المبنى ببعض درجات تحديداً … الغرفة المتسببة للمشاكل باستمرار بسبب بابها المفتوح دائماً وذلك المكتب القابع أمام الحائط المقابل حيث يستطيع الجالس ورائه رؤية الصاعدين والنازلين عبر درج المبنى … من بينهم نساء بالطبع.

وسرعان ما يبدأ الصراخ وتلحقه الشتائم وتتطور الأمور أحياناً الى عراك بالأيدي بين أزواج أولئك النسوة وبين صاحب الغرفة.

لكن … هذه الأمور تحدث في الصباح لذلك هي ليست في دائرة اهتمامتنا الآن على الأقل.

ليست كذلك لأنني أريد التحدث عن تلك الأمور التي تحدث في الغرفة ليلاً.

وحتى لا يمتلأ رأسك بتلك الاحتمالات التي أكثرها غير قابل للنشر دعنا نبدأ مباشرة .. نحن نحب سماع القصص والحكايا الغير مألوفة مهما كان نوعها ومهما كانت مثيرة للفضيحة أو القشعريرة.

الدنيا ليل والهواء البارد يهب بقوة ومدخل المبنى غارق في الظلام .. المصباح المعلق أعلى المدخل كفّ عن العمل منذ فترة طويلة وسكان المبنى ينتظرون وقوع حادثة مؤسفة ما لكي يضطروا لاستبداله.

هل رأيت ذلك الشبح الذي مرق بسرعة لداخل المبنى !؟ .. إنه يقف أمام باب الغرفة كما ترى ويمد يده ويفتح بابها بهدوء.

أضواء عربة مارة تلتمع على وجهه .. آآآه هذا رياض ابن صاحب الغرفة …

يبدو أن الحكاية قد بدأت فعلاً .

********

رمى رياض المفاتيح على الطاولة ووضع الأكياس على أحد المقاعد ثم أسرع والتقط الشريط ووضعه في جهاز الفيديو وضغط زر اعادته الى بداية الفيلم ..

فكر وهو ينظر ساهماً الى البكرات التي تدور بسرعة داخل الجهاز بأن على صاحب محل التأجير أن يقوم بذلك بنفسه حتى لا ينتظر الزبائن وقتاً طويلاً ليشاهدوا الفيلم .. لا بد أن لديه أجهزة أكثر سرعة من تلك المنزلية.

الجهاز يعمل جيداً .. أسرع نحو المدفئة وفتح صنبور المازوت المثبت فوق الخزان الصغير المعلق بدوره على جانب المدفئة الصغيرة .. نظر داخلها وتأكد أن السائل قد بدأ يتجمع أسفل بيت النار ومن ثم أشعل عود ثقاب ورماه وهو يفتح مجرى الهواء قليلاً .

تذكر المدفأة التي كانت موجودة في ذلك المهجع الذي كان ينام فيه أثناء خدمة الجيش .. أضافوا مرة بعض البنزين للمدفأة لكي تشتعل بسرعة .. ويبدو أن من قام بذلك كان متحمساً قليلاً لأن كمية البنزين التي وُضعت كانت كافية لاحداث صوت انفجار أيقظ القطعة العسكرية كلها وتسبب لهم بليلة عقوبة طويلة.

يبدو أنهم حسبوا أن الحرب قد قامت .. ضحك وهو يشعل الموقد الصغير ويضع عليه ابريق الشاي .. أخرج الصحون وملئها بالمكسرات ووضعها على الطاولة هي وكؤوس الشاي وعلبة السكر ووضع كيس الكستناء بجانب المدفأة.

تلفت حوله بسرعة ثم تنهد بارتياح .. المكان قد أصبح جاهزاً للسهرة .. ألقى نظرة سريعة نحو الساعة ثم جلس بجانب المدفأة الذي بدأ دفئها يسري في المكان.

كان قد اعتاد على إقامة سهرة أسبوعية في الغرفة هو وأصدقائه .. في البداية كانوا يلعبون الورق ويتصايحون بصوت عال أدى لمشاكل وشكاوي عديدة من الجيران كاد أباه يمنعه بعدها من سهراته تلك.

ثم نصح بعض العقلاء الأب بأن لا يفعل ذلك لأنه سيُفقده السيطرة .. سيمضي رياض الى سهرات في أمكنة أخرى يعلم الله وحده ما سيحدث فيها.

هكذا فكر الأب طويلاً ثم حمل جهاز الفيديو من البيت هو وذلك التلفاز الصغير القابع في غرفة النوم ووضعهم في الغرفة .. وتم عقد الاتفاق بأن تكون لرياض سهرة واحدة أو سهرتين على الأكثر في الأسبوع .. هكذا سيضمن مع كومة الصامتين الذين سيجلسون متابعين فيلماً ما بأن لا تصدر أي ضجة عالية من الغرفة في الليل .. تكفيه المشاكل التي تحدث في الصباح من تحت رأس الغرفة.

لم ينس أن يرمق رياض بنظرة صارمة وهو يقول له بأنه يتعامل معه على أنه أصبح رجلاً عاقلاً وأن عليه أن يثبت له ذلك فعلاً أيضاً … كان يخاف من أن يحضر ابنه تلك الأفلام إياها ويجلب لنفسه ولأهله الكلام وقلة القيمة .. لذلك كان الأب يكبس على رياض وأصدقائه عدة مرات وبشكل مفاجئ ليتأكد من محتويات ما يشاهدونه ولكي يُفهم رياض أن ذلك قد يتكرر بأي لحظة.

بالنسبة لرياض كان ما حدث انتصار بحد ذاته .. أصبحت سهراته مرغوبة من الجميع في ذلك الزمن الذي كان وجود فيديو في مكان ما دليلاً على الثراء والزنكلة .. هكذا صار لديه خيار اختيار أصدقاءه بدلاً من أن يختاروه هم .. ويبدو أن بعض اختياراته كانت صائبة لأنه وفي الوقت الذي عرض فيه أحدهم أن يأتي بأحد الأفلام إياها كان بانتظاره رفضاً حاسماً وهدد بعضهم بالفضيحة وبأن لا يعود للسهرة مرة أخرى .. ورفض رياض بحسم برغم الفضول والإغراء .. هكذا أُغلق هذا الباب بالكامل.

بدأ الأصدقاء بالتوافد .. وسرعان ما اكتملت الجلسة .. وبدأت أصوات الأحاديث والضحكات وطقطقت المكسرات .. صبّ أحدهم الشاي في الكؤوس ووضع شخص آخر حبات الكستناء على المدفأة.

أطفأ رياض ضوء الغرفة واقترب من الفيديو وضغط زر التشغيل .. هكذا سيغدو الجو أشبه بقاعة سينما .. تبادل مع أصدقائه بضع كلمات متحمسة حول محتوى الفيلم الذي أكد له صاحب محل التأجير أنه أفضل فيلم أكشن وقتال ياباني نزل حتى الآن للسوق … بدأ الفيلم وتسلل الصمت بين العيون المترقبة.

بدأ الفيلم بمشاهد قصف لمدينة ما .. الناس تهرب مذعورة في الشوارع وهناك عربات تقف مزدحمة على طريق طويل وعربات أخرى مدمرة بين ركام البيوت.

بطل الفيلم زوج أربعيني لديه عائلة من زوجة وأربعة أولاد .. عائلة فقيرة لا تملك وسيلة نقل ومجبرة على النزوح في هذه الظروف الكارثية.

العائلة جالسة في المنزل بجو مليء بالترقب والرعب وأصوات الرصاص والقذائف لا تتوقف .. يختلس الزوج النظرات من الشباك فيشاهد رجلاً عجوزاً يركب عربة يجرها حصان .. يخرج ويتوسل له أن يأخذهم معه .. يرفض العجوز فيلتفت الزوج نحو البيت ثم يعرض ساعته الثمينة للعجوز الذي يقبل عندها نقلهم لمكان آمن.

يضع الزوج والزوجة بعض الأغراض بسرعة في العربة ويركبون هم وأولادهم الأربعة … مشاهد الدمار والقتلى على الطريق والعجوز يمسك بلجام الحصان بوجه خال من التعابير.

تحصل اشتباكات بقربهم ويصاب الحصان بالرصاص ويسقط ميتاً ويصاب العجوز بجرح كبير .. يداوي الزوج جرح العجوز ويربطه بخرقة ثم ينزل هو وزوجته ويبدءان بجر العربة التي صارت تحوي الآن أولادهم والأمتعة والعجوز الجريح.

العربة ثقيلة وبالكاد تسير فيبدأ الزوج والزوجة برمي أمتعتهم من العربة وهم يتحدثون عن ذكرياتهم معها قطعة قطعة…

تبادل رياض وأصدقاءه بضع نظرات مستنكرة ثم قال أحدهم ساخراً :

قال رياض وهو ينفخ في غضب :

قاطعه أحد الأصدقاء قائلاً بسرعة :

عادوا لمتابعة الفيلم وساد الصمت مرة أخرى وبدأت بعض ثمار الكستناء بالطقطقة فمد رياض يده وبدأ يجمع الناضجة منها ويضعها في صحن كبير وسط الطاولة.

كان الزوج والزوجة قد فرغوا من رمي أمتعتهم وبقية بضع قطع ملابس والأولاد والعجوز الجريح.

العربة صارت تسير بسرعة أكثر والعرق يتصبب منه ومن زوجته وأصوات لهاثهم تتعالى .. كانوا قد خرجوا من مناطق القتال وصارت تأتي أصوات القصف والرصاص من بعيد.

الظلام بدأ بالهبوط والجو بارد ولا مكان يصلح للتوقف .. الشكوى من الأولاد وأنين العجوز وقرصات الجوع وآلام التعب والخوف بدأت تتعالى.

يلمح الزوج بيتاً من بعيد بين الحقول .. يسرعون إليه ويدقون الباب بلا أي إجابة .. البيت مظلم ويبدو أنه خال من أصحابه .. يتردد الزوج ثم يخلع باب البيت ويدخل الجميع بعد أن يضع العربة في فناء البيت الخلفي.

البيت مليء بالأثاث الفخم والقبو بالأطعمة .. يشعل الزوج المدفأة الحجرية وتبدأ الأمور بالتحول نحو الأفضل.

ينقل الزوج التحف والأشياء الثمينة لإحدى الغرف ويقفل حميع الأبواب ويترك فقط الصالة وغرفة صغيرة لنوم الزوجة والأطفال وينام هو والعجوز في الصالة.

بعدها تمر العائلة بحوادث متفرقة .. محاولة نهب البيت من لصوص يقاومها الزوج والزوجة بعنف يقوم بعدها العجوز بالتضحية بنفسه من أجل التخلص من السارقين.

زيارة من الشرطة التي تريد التأكد من شخصيتهم.

تلك الدبابة التي كادت تطلق قذيفة عليهم لولا صوت الرصاص الذي أُطلق من الحقول المقابلة في اللحظة الأخيرة.

كان النوم قد بدأ يتسلل الى بعض الجفون وبدأ أحدهم بالنوم فعلاً على حين كان هناك من يتابع الفيلم بكل حماس وانتباه.

هنا دق باب الغرفة بصوت عال عدة مرات.

ضحك أحد أصدقاء رياض وقال بجذل:

قام رياض وفتح باب الغرفة ونظر خارجها .. كان أبو الزين واقفاً هناك يحاول مد رأسه واستراق النظر.

أبو الزين هو بالمختصر .. أبله الحارة .. كهل أعرج أصلع بشارب عريض يرتدي جلابية زرقاء مهترئة الجوانب ولا يُعرف له بيت أو عائلة .. يقضي النهار في التنقل بين الشوارع والدكاكين يتكلم بعبارات شتى بالغة الحماقة وأحياناً بالغة الحكمة .. كلمات لا يجرؤ عاقل على التفوه بها وكلمات تشعر من خلالها أنه يعرف الكثير وكلمات تجعلك ترغب في ركله وطرده..

لذلك كان الاتفاق الصامت بين أهل المنطقة على مداراته وتجنب ساعات غضبه التي لا تبقي ولا تذر .. يطعمونه ويعطونه جلابية أخرى عندما تتمزق جلابيته .. كان لا يقبل سوى ارتداء الجلابيات الزرقاء تحديداً ولم يُشاهد يرتدي بنطالاً طوال حياته.

ضحك أبو الزين وقال وهو يحاول الدخول :

حاول رياض منعه من الدخول فقال له أحد الجالسين:

أمسك رياض بيد أبو الزين وجذبه نحو الداخل وهو يقول بصرامة:

غمغم أبو الزين بكلمات مبهمة وهو يدخل بعرجته الثقيلة ويأخذ من دون استئذان أحد صحون المكسرات ويضعه على الأرض بجانب المدفأة .. ثم صب لنفسه كأس شاي وعاد وجلس بجانب الصحن وأخذ يشرب ويطقطق وينظر ساهماً نحو شاشة التلفاز .. ثم قال بحنق :

أجابه أحد الجالسين باستخفاف :

تجاهل أبو الزين كلامه وأخذ يغمغم بشتائم مختلفة وهو يأكل ثمرة كستناء تناولها من المدفأة مباشرة نافخاً في ضيق من حرارتها.

كان المشهد على التلفاز هو للزوج وعائلته وهم واقفين أمام المبنى يتحدثون مع أصحاب البيت الذي وصلوا فجأة الى منزلهم بعد غياب دام أشهر .. نقاش طويل دار بينهم .. اتهامات وتبريرات واتهامات معاكسة … ثم ينتهي الفيلم بتبادل صاحب البيت وزوجته النظرات فيما بينهم ويقترب من بطل الفيلم ويعانقه مبتسماً.

أطلق الجالسون تنهيدات ارتياح وقام رياض وأطفأ الفيديو والتلفاز …. قال أحدهم وهو يرشف آخر رشفة من كأسه :

ضحك رياض وقال باستهزاء :

لوح أحد الجالسين الذي بقي صامتاً طوال الوقت بيده وسأل البقية :

قال أحدهم وهو يأكل قطعة كستناء :

استدار أحد الجالسين نحو أبو الزين وسأله باستخفاف:

ضحك أبو الزين وقال بشرود :

ضحك الجميع وقال أحدهم ساخراً :

تبادل الجالسون نظرات صامتة ثم بدؤوا بلملمة أغراضهم والمغادرة تباعاً .. ولم يبق سوى أبو الزين ورياض الذي قال له بقسوة:

قام أبو الزين وأخذ بقية حبات الكستناء وغادر الغرفة وهو يعرج بسرعة .. تأمله رياض باشمئزاز ثم بدأ بتوضيب الفوضى الباقية وأطفأ الأنوار وخرج بعد أن أقفل باب الغرفة بإحكام.

لفحات الهواء باردة حقاً .. هذا زمهرير بكل معنى الكلمة .. ضمّ معطفه حول جسمه بقوة ثم أسرع مغادراً المبنى.

ساد الهدوء بعدها إلا من وقع خطوات بعيدة نوعاً .. خطوات تصعد على درج المبنى .. تحديداً ما بين الطابق الثاني والثالث .. لمزيد من الدقة خطوات شخص أعرج .. كان أبو الزين بطبيعة الحال .. ولا تسألني لماذا يصعد على درج مبنى لا يسكنه ولا أقارب له فيه في هذا الوقت من الليل .. أنا أيضاً لا أعرف.

لكن .. تعال لنرى ما يحدث.

كان أبو الزين قد وصل الى الطابق الثالث .. تلفت حوله ثم اتجه بسرعة وتصميم نحو باب معين .. كان منزلاً مملوكاً لإحدى العائلات الساكنة في المبنى ويستعملونه كمخزن لأشيائهم المهملة.

مد أبو الزين يده وأمسك الباب وهزه في عنف .. ثم تراجع قليلاً ودفعه بعدها في كتفه فأطلق صوتاً مكتوماً وفُتح بعنف .. أسرع ودخل البيت وأخذ يتنقل بين غرفه وهو يشعل أضوائها .. كان البيت عبارة عن مستودع مملوء بأشياء غير متجانسة .. صناديق قديمة وأجهزة متعطلة ومفروشات قديمة مهترئة .. وكومة من الثياب موضوعة في خزانة تفوح منها رائحة نفتلين قوية.

مد أبو الزين يده وأخذ يفتش بين الثياب المعلقة ثم أخرج بذلة رسمية قديمة لا بد أنها كانت بذلة عرس صاحب المنزل.

خلع أبو الزين الجلابية الزرقاء وارتدى البذلة .. كانت ضيقة عليه قليلاً ولكنه نجح في ارتدائها بالكامل وأمسك كرافتة وربطها بشكل عشوائي حول رقبته.

اقترب من مرآة كبيرة موضوعة طرف الغرفة وأخذ ينظر لنفسه في صمت.

ثم تحرك مغادراً البيت وترك بابه مفتوحاً وبدأ ينزل الدرج بتمهل .. وصل الى نافذة الدرج الكبيرة وتوقف هناك ومد رأسه يتأمل الشارع الصامت.

مدّ يديه فجأة وبدأ يصعد على إفريز النافذة ووقف بصعوبة فوقها .. أدار رأسه يميناً وشمالاً عدة مرات .. ثم رمى بنفسه نحو الأسفل.

في الصباح الباكر كان هناك عدد من المارين متجمعين أسفل المبنى حول جثة رجل أصلع مغمض العينين يلبس بذلة رسمية قديمة تفوح منها رائحة نفتلين.