الآن وقد تكلمنا عن الشارع الذي يحتوي المبنى فقد جاء دور المبنى نفسه.
المبنى قديم كما لك أن تتخيله .. قديم لدرجة أن لا أحد يدري تاريخ بناءه بالضبط .. سكانه الأوائل أصبحوا من التاريخ فضلاً عن من بناه أصلاً .. ولحق بهم من كان يعرف تاريخه المبكر .. للأسف لم يكن من بين سكانه الأوائل من كان يمارس التدوين لذلك ماتت الكثير من الحكايا وراحت مع أصحابها.
تعال معي لنقف أمامه .. العينُ مغّرفة الكلام كما يقولون وسيكون من المتعب أن أسرد عليك تفاصيل المبنى وملامحه من دون أن تراه بنفسه .
تعال ولا تبدأ بالتذمر وادعاء المشاغل .. سيأتي يوم ستتمنى أن تمر في تلك الشوارع وترى الحواري والدكاكين وتسمع لغط المارين وأصوات الباعة وتشم روائحهم .. ستتمنى ولن تنال سوى التمني.
آه .. هذا هو المبنى .. أتراه!؟ .. قديم وعال برغم طوابقه القليلة ولا يحتوي على شُرفات .. هذا شيء مخيب لآمال من يحب مجالس الشرفات في العصاري والمساءات حيث النسمات الرحيمة والشاي المنعش وروائح أوراق الأشجار وغيرها من الروائح الغامضة التي تعيد لذهنك ذكريات معينة من دون سابق إنذار .. مزيج من المشاهد والأفكار والأصوات التي تغسل الهموم والتعب لتبقي السكينة في نفسك.
ولكنه مبنى لا شرفات له لأنه بُني في زمان كانت النساء فيه يجلسن في الغرف أو على الأسطح في الأوقات الخالية من الرجال .. وكان للرجال مجالسهم الخاصة لذلك لم يكونوا بحاجة لاختراع الشرفات.
دعنا نقترب من باب المبنى ونهِمّ بدخوله.
السلم الحجري ذو الدرجات العالية .. وهل توقعت شيئاً غير هذا !؟
أترى ذلك الباب في الطابق الأرضي خلف الدرج .. وراءه غرفة تستعمل كمكتب مثلها مثل تلك الغرفة التي فوقها والموجودة بعد مجموعة قليلة من الدرجات عند المنعطف الأول المتجه نحو الطابق الأول.
هكذا تعرف أن المبنى لا يحتوي على بيوت أرضية وإنما على محلات تجارية عالية الأسقف وعلى غرفتان تمتدان على ارتفاع تلك المحلات.
آه .. هاقد وصلنا الى الطابق الأول .. هل ترى ضخامة الردهة !؟ .. هذه مساحة تكفي لبيت كامل وهناك من اعترض بأن هذا هدر للمساحة التي كان من المفترض أن يتم استغلالها ضمن البيوت نفسها.
ولكن لا .. ليس هناك أي هدر بهذا الشأن .. هذه الردهة لها أهمية كبيرة وأزعم لك بقوة بأنها من شكّلت خصوصية هذا المبنى .. الردهة المطعمة أرضيتها بألواح زجاجية سميكة مزخرفة في أماكن متفرقة من منتصفها كمحاولة لنقل الضوء من بين الطوابق .. ألواح تكسر بعضها وتم استبداله بقطع من البلاط … الردهة التي كانت ملعباً للأطفال وستراً وخصوصية لسكانها ومكاناً هاماً لكثير من الأحداث التي وقعت هنا .. الردهة التي حوت أجيال بكاملها وكانت معبراً لبعض الهاربين من الموت .. كيف ذلك !؟ .. اصبر وسوف أحكي لك هذه الحكاية في وقتها إن شاء الله.
طابق بأربعة أبواب متباعدة تتكون من جزء خشبي وجزء زجاجي مدعم بقضبان حديدة مزخرفة .. هل تراها !؟ .. حاول أن لا تحدّق زيادة حتى لا يتصادف خروج إحدى الساكنات أو أحد السكان فيلمحك تفعل ذلك .. دع نهارنا يمضي على خير.
لن أقول لك طبعاً أسماء العائلات الساكنة هنا .. بم يفيد ذلك !؟ .. الحكايات لا تحتاج لأسماء حقيقية .. هي بحاجة لأسماء وكفى.
أترى هذا البلاط القديم الذي يغطي الردهة!؟ .. تأمل سور الدرج وزخارفه الحديدية .. هذه رحلة سريعة عبر الزمن لن تواجه مثلها أبداً في المباني الحديثة.
تعال لنصعد نحو الطابق الثاني .. ماذا قلت !؟ .. كل هذا اللهاث من أجل طابق واحد .. يبدو أن الشحوم قد بدأت تفعل فعلها معك.
لا يا صديقي ليست الطوابق ولا البيوت متشابهة هنا على غرار ما نعرفه في بقية الأبنية .. كل بيت هنا له شكل مختلف لا يشبه البيت الذي بجانبه ولا الذي يقابله .. لا أعرف وجهة نظر من بناه بهذا الشكل ولكن يبدو أن له أسباب وجيهة خصوصاً أن البناء تم على مراحل وفي أزمنة مختلفة.
آه … ها قد وصلنا .. أترى ذلك الشباك العريض الممتد أعلى الحائط في صدر الردهة!؟ .. هل فهمت ما أعني ؟ .. هو ليس موجوداً في الطابق الأول وبدلاً منه هناك شباك صغير يقع في منتصف الحائط هناك.
تشجّع .. لم يبق سوى طابق واحد وبعده السطح .. الهواء هناك سيجعلك تستعيد أنفاسك فلا تقلق .. ها هو الطابق الأخير .. لا أدري إن كنت ستفهم حقيقة ما أعنيه ولكني كنت أعتقد دائماً أن كل طابق في هذا المبنى هو دنيا بحد ذاتها .. الردهة الكبيرة والشبابيك والأبواب وألوانها وخاماتها المتغيرة تجعل لكل طابق هوية مستقلة بذاتها وكأنها عوالم وضعت فوق بعضها البعض.
لم يبق سوى درجات قليلة ونصل للسطح .. أنت لا تتوقف عن اللهاث !! .. تعال لنجلس على إحدى الدرجات والتقط أنفاسك على مهل .. ليس هناك مصاعد هنا والدرجات عالية كما ترى لذلك لن تكون تجربة طلب الاسعاف لك سارة جداً .. لنقل أنها ستكون سارة فقط للأولاد والفتيات الساكنين هنا والذي سيُذهب مشهد تمددك على محفّة الاسعاف بعض روتين حياتهم .. ومن يدري قد يسعفوك هم قبل أن تأتي سيارة الاسعاف لتأخذك.
خذ يدي وانهض وتعال لنكمل جولتنا .. إن هي إلا بضع درجات ونصل للسطح .. هل ترى هذا الباب الحديد السميك ؟ .. دقق فيه أكثر وقل لي .. هل لاحظت تلك الانبعاجات الموجودة في أماكن متفرقة في وسطه ؟ .. لهذا حكاية سوف أحكيها لك لاحقاً .. كما اتفقنا .. كل حكاية في وقتها وزحام الحكايات يضيع المعاني والتفاصيل.
هفففف .. ثقيل حقاً .. ساعدني قليلاً .. آآآآه .. ها قد استجاب الوغد أخيراً .. هل ترى هذا الممر المطعّم هو الآخر بالزجاج السميك المزخرف ؟.. من هنا يأتي الضوء .. الأبواب التي تراها يمنة ويسرة هي محاولة لاعطاء كل بيت حصته من السطح .. محاولة فاشلة تم اصلاحها باتاحة بقية السطح لعموم السكان وذهب المكسب لمن حضر القسمة أولاً.
أرى أن أمورك أصبحت الآن أفضل .. المكان عال والفضاء مفتوح والهواء نظيف نسبياً .. تعال وتأمل الاطلالة .. أترى هذا الجمال عبر التفاصيل الكثيرة التي تستطيع أن تراها من هنا .. ذلك الجزء الكبير من المدينة القديمة الماثل أمامك بكامل تفاصيله ..
أعود وأقول لك .. املأ عينيك وعقلك وقلبك من هذه المشاهد .. من يدري ما سيحدث فيما بعد ؟
خذ وقتك ولا تتعجل .. خذ ما تستطيع حمله في ذاكرتك وتعال بعدها لنغادر .. لا تتعامل مع الحياة وموجوداتها كأنها حق دائم الوصول لك .. ليس هناك حقوق دائمة ما دمت تعيش في هذا الجزء من الدنيا .. ليس هناك حقوق دائمة أصلاً ..
إما أن تموت وإما أن تغادر.
التعليقات :