النصف الثاني من سنة 2003
كنت في ذلك الوقت موظفاً جديداً في تلك الشركة التي عملت فيها طوال عشر سنوات تقريباً .. تحديداً في الفترة ما بين انتهائي من الخدمة العسكرية وبين مغادرتي لسوريا كلها لأسباب لا تخفى على أحد.
موظف جديد يتحسس طريقه وسط ظلام دامس .. ولو أن نوراً ما قد أضاء ذلك الطريق لأصابه الرعب من كمّ الوحوش والأفخاخ المحيطة به والتي عجز عن رؤيتها .. وقد يكون هذا هو سبب نجاته منها لأن الجهل بالخطر منج في أحيان كثيرة لكنه لا يشفع بالنجاة في أحيان أخرى لذلك رأيت العديد من الموظفين ممن سقطوا في فخ ما أو التقمهم وحش بشري من تلك التي لا تخلوا منها أماكن العمل.
موظف يجلس في قاعة كبيرة يتوزع الموظفون في أحد أطرافها ويقبع مكتب المدير في الطرف الآخر وبجانبه في إحدى الزوايا معاونه الذي كان عسكرياً سابقاً .. كهل هاد الملامح والنظرات والتفكير وقلة الأخلاق.
وباعتباري كنت الأجدد من بين الموظفين فقد كانت الأعين عليّ أنا تحديداً .. لذلك كان شعوري بالمراقبة حقيقاً وليس أحد أنواع الضلالات النفسية وكنت أنا أيضاً أراقب الموظفين من طرف خفي لكي أفهم كيف تسير الأمور وتدار هنا والأهم أوزان بقية الموظفين ومواقعهم من الإعراب.
موظف جديد لم يعد جديداً جداً بعد عدة أسابيع وذلك لأن موظف آخر قد جاء للقاعة .. الحقيقة أنه جاء منتقلاً من ادارة إحدى المعامل التي تملكها الشركة وكان الموظفون القدامى يعرفونه لذلك لم يكونوا يتعاملون معه على أنه جديد.
وأنا لم أعد أتذكر سوى كنيته فقط وبكل الأحوال لنطلق عليه اسم : عدنان
ولأننا لسنا في قصة أو رواية ما فليس من الضروري أن أتركك لكي تكتشف ملامح شخصية عدنان بنفسك .. وسأخبرك حالاً بكل شيء عرفته وخبرته عنه.
من ناحية الشكل .. كان متوسط القامة ممتلأ الجسم .. أصلع لون بشرته مائل للحمرة وأنفه مكسور أزرق اللون ..
أما عن صفته النفسية فالحقيقة أنه كان من ذلك النوع الذي يستتر بالدين كما يقولون .. هذه ممارسة محببة للبعض وتدل على عقدة نقص لا بأس بها .. هو لا يجد في نفسه قوة بدنية أو نفسية ما فيسير نحو الحل الأسهل … بضعة تصرفات وكلام وأحاديث معينة تعطي صورة المتدين الصميم .. رسالة خفية هدفها أن يأخذ مكانة واحتراماً مستمدين من تلك التصرفات.
هذا موضوع شائك حقاً لأن التعميم هنا كارثي وظالم .. فليس كل صاحب سلوك مشابه متستر بالدين .. ولكن الجميل أنه من السهل جداً كشف هؤلاء المتسترين .. لأن ما يصدر منهم هو كلام فقط .. وعندما يحين دور الفعل الصحيح النابع من تعاليم الدين ستجد عنده أفعالاً مختلفة .. أفعالاً سافلة.
وأنا تعاملت مع العديد من المتسترين بالدين في حياتي ولم يكن عدنان أوسخهم .. ولكن لذلك حكايات أخرى.
لنعد لصاحبنا عدنان .. في البداية كان لطيفاً جداً ويتعامل مع الناس بأريحية .. هادئ الملامح والصوت .
كان بلا مهام في البداية كما يحدث مع أي موظف جديد .. ثم طلب منه المدير أن يدقق مُخرجات مهامي .. فكان يجلس بجانبي ليتفرج على ما أقوم به ثم يقوم بتدقيقه .. وأنا بالطبع لم أكن أعطيه تلك المخرجات قبل أن أدققها أنا بنفسي من باب الاطمئنان.
في إحدى المرات كان يجلس بجانبي عندما كنت أراجع ما أقوم به .. طبعت ورقة ورحت أقارنها مع الموجود على الشاشة واكتشفت بعدها خطئاً فأصلحته ووضعت الورقة كمسودة في إحدى الأدراج.
في اليوم التالي كنت أجلس في إحدى سرافيس الشركة عندما حكا لي معاون المدير أن عدنان قد أرى المدير البارحة بعد انصرافي ورقة بها خطئاً وادعى أنني أنا سبب ذلك الخطأ.
لن أطيل عليك الحكاية .. كانت تلك الورقة هي نفسها التي وضعتها كمسودة في الدرج .. أي أننا أمام جريمة سرقة ورقة مسودة من الدرج وكذب يؤدي الى ضرر بموظف جديد .. ولو كانت هناك محكمة متاحة بهذا الصدد لحكمت على عدنان بالإعدام رمياً بالأحذية.
ولأن لا وجود لمثل هذه المحكمة للأسف فقد وقع على كاهلي عبء بهدلة عدنان .. ولم أكذب خبراً لأنني كنت مشحوناً بما فيه الكفاية لأنزل من السرفيس وأنا أشعر بغلّ يكفي بلداً وأتجه نحو عدنان مباشرة ليسمع مني صياحاً وكلمات حادة جداً لم أتوقع أن تخرج مني بهذا الشكل .. لقد أكل عدنان نصيبه مني بشكل كامل.
وعرفت بعدها سبب نقله وكسر أنفه معاً.
كان يعمل كما أسلفت ضمن إدارة أحد معامل الشركة .. ضمن تلك الادارة كان هناك مكتب يحوي شاب وفتاة يعملان في قسم واحد .. وهذا الأمر لم يعجب عدنان ويبدو أنه رأى من واجبه .. كمتستر بالدين .. أن يمنع هذه الكارثة من الاستمرار .. هو رأى أن هذه خلوة غير شريعة .. وأنا لا أعرف كيف يستطيع أحد أن يقوم بخلوة غير شرعية في شركة ثلاثة من جدران مكاتبها المتلاصقة من الزجاج !!؟
وزيادة في الهم على القلب .. بدلاً من أن يتحدث عدنان الى الادارة قام بالتكلم حول هذا الموضوع مع كل موظف رآه أمامه باعتباره حامياً للدين .. والذي حدث بعدها أن الكلام انتشر ووصل الى الموظفة فطلبت نقلها أو استقالت .. لم أعد أذكر بالضبط ما حدث .. ولأن الكلام قد وصل للموظفة فمن الطبيعي أنه وصل لزميلها في الغرفة أيضاً.
هنا نستطيع أن نتخيل أن ذلك الموظف كان لديه نية في خطبة زميلته ولكن بعد أن قال عدنان ما قاله وفضح الدنيا فلم يعد يستطيع فعل ذلك لأن ذلك سيعني تأكيد رواية عدنان وظهور الخطبة على أنها لفلفة للحكاية عداك عن أن الموظفة لم تكن لتقبل قط بذلك .. العلم عند الله وحده ولكن تخيلي هذا نابع مما حصل لعدنان بعدها.
والذي حصل أن عدنان كان يقف في يوم ما لاحق على طرف إحدى الدائريات المركزية الخالية من المارة عادة منتظراً إحدى سرافيس النقل العام التي تمر بجانب بيته عندما اقترب منه بعض الرجال وبدأ الفيلم الهندي.
حدث ذلك قبل أسابيع من انتقاله للمكتب الذي أعمل به لذلك كانت الكدمات التي ملئت جسمه كله قد اختفت وبقي شاهد واحد عما حدث وهو أنفه المكسور .. تم فصل ذلك الموظف من عمله ومن ثم أعاده صاحب العمل بعد شفاعات وتوسطات وبعدها .. حتى لا يبقى الاثنان في مكان واحد .. نُقل عدنان الى مكتبنا.
ولمزيد من الدقة التاريخية .. قرار فصل عدنان كان قد اتُخذ فعلاً لكن الادارة لم تُرد أن ينفذ بسرعة حتى لا تزداد الأقاويل حول ما جرى لذلك كان قرار نقله هو لكسب الوقت لا أكثر .. وهذا ما أدركه على ما يبدو معاون المدير الذي كان مخنوقاً بشدة من وجود عدنان في المكتب لذلك كان يمارس عليه ضغطاً مستمراً كانت إحدى إجراءاته الحكاية التي حكاها لي في السرفيس والتي جعلتني أبهدله بصوت عال أمام جميع الموظفين.
ما هي أسباب كرهه له ؟ الحقيقة أنني لا أدري بالضبط .. ربما كان خائفاً على مكتسباته أو أن هناك أموراً أجهلها .. لكني شعرت بالارتياح عندما سمعت أن المدير قد قام بنقل عدنان الى مكان آخر وانقطعت أخباره بعدها تماماً.
أما الذي جعلني أشعر بارتياح أكبر بمراحل هو فكرة أن معاون المدير بتحريضه المدير على عدنان قد أحرق كرتاً لم يعد يستطيع استعماله مع أحد آخر .. معي تحديداً.
ولكن هذه ذكرى وحكاية أخرى.
الحقيقة أرى نفسي محظوظا الحمد لله أن لا أحد من زملائي تقريبا كان كريها مثل ذلك الرجل الذي تحكي عنه، وأنا لي 10 سنين في الوظيفة تقريبا.
هذا جميل .. أنت محظوظ فعلاً بمكان عملك .. هم عادة لا يجتمعون بمكان وزمان واحد وإلا لتحول مكان العمل الى شيء أشبه بمرآب للوحوش 🙂