كانت مسرحية ريا وسكينة من أوائل المسرحيات التي شاهدتها في طفولتي .. كنا نمتلك جهازاً من ماركة sony لعرض شرائط الفيديو ذات المقاس الصغير .
هذا الجهاز الجميل اللون والتصميم أنقذنا من ملل واستفزاز برامج قناة التلفزيون الوحيدة التي كان يبثها تلفازنا عديم الحيلة .. الحقيقة أنها كانت قناة ونصف إذا أضفنا القناة الثانية التي كانت تبدأ برامجها حوالي السادسة مساءاً الى الحسبة
كان يمتلك أيضاً إمكانية تسجيل ما يعرضه التلفاز على أشرطته وبفضل ذلك امتلكنا مكتبة أشرطة فيديو صغيرة سجلنا عليها أشياء عديدة منها تلك المسرحيات التي كانت تعرض في أيام الأعياد وكنا نشاهدها بشكل يومي مجربين بشكل مبكر شعور أن تمتلك خدمة كخدمة اليوتيوب .. ميكرو يوتيوب للدقة.
يبدو أنني تهت عن الموضوع الأساسي لذلك أرجو المعذرة.
في ذلك الوقت من سنوات الثمانينات كانت مسرحية ريا وسكينة ما تزال طازجة وطريفة .. وأنا أخذت قصة الأختين ريا وسكينة بهذا المنظور .. منظور الطرافة .. ولم أجد في الأمر جريمة ما بسبب جرعة الكوميديا التي غطت على كل شيء حتى على تلك المشاهد التي تحتوي على قتل تم بطرق مواربة الى حد ما.
علمت فيما بعد أن هناك فيلماً بالأبيض والأسود للأختين ولكني تجنبته لأن المشاهد السريعة التي لمحتها كانت كالحة حقاً ولم أحب أن أخوض التجربة.
لذلك بقيت ريا وسكينة بالنسبة لي هما سهير البابلي وشادية ومعهما عبد العال وحسب الله والحكاية كلها ضحك بضحك على الرغم من التفاصيل القليلة التي قرأتها فيما بعد والتي شعرت من خلالها بأن الحكاية أكبر من تلك المشاهد الضاحكة والغنائية القادمة من مسرحية كوميدية.
لكن الذي لم أكن أعلمه وقتها أن كاتباً وصحفياً مصرياً اسمه صلاح عيسى كان يعلم عن ريا وسكينة أكثر بكثير ممن شاهدوا المسرحية أو الفيلم أو ممن قرءوا ما كُتب فيما بعد على مواقع الانترنت هنا وهناك.
وأنا أظن أنه كان يعرف عما حدث أكثر ممن عاصروا ريا وسكينة وبقية العصابة إذا استثنينا طبعاً الذين تم اعدام ريا وسكينة ورجالهم بموجب تحقيقاتهم وقراراتهم.
كان يعرف لأنه قرأ ملف القضية الضخم الذي ضم ألفين ومئتين وعشرين صفحة .. هذا غير الذي قرأه في ما يخص الظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت تسود مصر في عشرينات القرن الماضي.
وكانت ثمرة تلك القراءات هو ذلك الكتاب الذي وقع في يدي بعد سنوات طويلة من أول طبعة له .. رجال ريا وسكينة.
كنت أحتفظ به كنسخة الكترونية .. شرعية .. منذ أن أعادة طبعه دار الكرمة وبدأت به فعلاً وقتها ثم حصل لي انشغال ما جعلني أتوقف.
لمحته مؤخراً في تطبيق أبجد فقلت في نفسي قد جاء وقته .. كان ذلك قبل شهرين وبدأت فعلاً قراءته حتى أنهيته منذ حوالي العشر أيام .. كتاب ضخم حقاً .. 1700 صفحة على شاشة هاتفي .. احتاج مني لنفس طويل لأنهيه.
لكن برغم ضخامته كان مسلياً جداً وكنت بالكاد أستطيع تركه وكاد أكثر من مرة أن يتسبب بأن يفوتني النزول في محطتي أثناء ركوبي في المترو.
المميز في كتاب رجال ريا وسكينة أن كاتبه صحفي له خبرة كبيرة في الصحافة الاستقصائية وكان هذا واضحاً من أسلوب كتابته إضافة لمعرفة كبيرة في التاريخ وأضف لهذه الخلطة خبرة كبيرة في العمل الصحفي وفي الكتابة بشكل عام مع رشة محكمة من أسلوب سخرية مبطن من خلال سرده لتفاصيل ما جرى مع آل همام .. كناية عن ريا وسكينة.
سخرية سوداء ظهرت بشكل واضح من خلال اهدائه الكتاب لحضرات الملوك والزعماء الذين كانوا السبب في نشوب الحرب العالمية الأولى والذين لولاهم لما استطاع رجال ريا وسكينة بأن يقوموا بما قاموا به من جلائل الأعمال على حد قوله.
الكتاب مكتوب على مهل وعلى فترة طويلة وبالتفصيل لدرجة تشعرك بأن الكاتب كان يراقب ما كان يجري مع ريا وسكينة ورجالها منذ البداية وحتى قبل وصولهم الى الاسكندرية .. هذا كتاب كُتب بمزاج وبال رائق وبكيفية أراد الكاتب منها أن يخرج بشكل متميز وكان له .. وفق وجهة نظري .. ما أراد.
هناك تفاصيل مرعبة حقاً في الكتاب .. خصوصاً وصف طريقة استدراج الضحايا وقتلهن بقسوة وبدم بارد وبلا مبالاة أخذت تزداد مع الوقت حتى تحول الأمر كأنه روتين مهنة رتيبة وليست جرائم قتل تم دفن ضحاياها في نفس أمكنة سكن القتلة.
هذا كتاب يحوي قصة كاملة منذ بداياتها المبكرة وحتى نهايتها وما بعد نهايتها حتى.
إضافة لذلك كان هناك سرد شامل للظروف الاجتماعية في ذلك الوقت .. الجوع والقلة والأمراض ونقص الخدمات المزمن التي فرضتها أجواء الحرب وأدت الى توحش الناس وبروز أنياب ذواتهم الطويلة بحيث أصبح تأمين رغبات تلك الذوات هو الغاية التي يسقط أمامها أي اعتبار أخلاقي.
هذا السرد الذي جعلني أفكر كثيراً في تفسيرات لما يجري في منطقتنا البائسة منذ زمن طويل وحتى هذه الأيام والله أعلم ما سيجري بعدها .. عن التعمد في وضع شعوب المنطقة بشكل دائم بظروف الحرب والضيق وانعدام الأمان والاستقرار .. تلك الظروف التي تخرج أبشع ما في الانسان وتجعل إمكانية شبعه لأمور واحتياجات كثيرة أهم من الطعام .. ومن بينها الطعام عموماً .. ضرباً من المستحيلات.
صلاح عيسى رحمه الله نجح في إيصال صورة ريا وسكينة ورجالهما بشكل كامل لكل من قرأ الكتاب .. الصورة الكاملة لهم كمجرمين ولصوص وقتلة ومشتغلين بالدعارة .. وأعطاهم أبعادهم الانسانية وغير الانسانية بعيداً عن الأعمال التي صورتهم بصور مغايرة لأسباب وأغراض مختلفة أكثرها تجاري بحت .. لذلك حق لآل همام أن يسلموا سلاماً حاراً على صلاح عيسى.
ولا أظن أنه سيكون ممتناً لهذا السلام.
رابط أول طبعة للكتاب لا يعمل، يصل لموقع آخر، أردت التنبيه فقط.
أذكر المسرحية جيداً ولا زالت تعرض حتى اليوم، في البيت القديم كنت أحياناً أسمعها لأن التلفاز يعمل كضوضاء خلفية بلا توقف، مع أن “المشاهدين” يشاهدون هواتفهم وحواسيبهم اللوحية، أتحدث عن أبناء أخي هنا 😅 لكن سيكبرون ويتغيرون أو .. ربما لا يتغيرون وتبقى العادة.
على أي حال، لم أقرأ شيئاً لصلاح عيسى من قبل وأثرت فضولي، أقرأ صفحته في ويكيبيديا ويبدو أنني سأجد الكثير مما أريد قراءته، لكن ربما سأتجنب قراءة ريا وسكينة 😂
أصلحت الرابط .. شكراً على التنبيه 🙂
جميل أن هناك من يشاهدها حتى الآن .. حسبت أنها صارت من التاريخ أو ذكريات لأبناء جيلنا
أعتقد أنهم سيتغيرون وأرجو لهم أيام رضا جميلة
كتب صلاح عيسى ممتعة فعلاً .. تاريخ وربط للأحداث وأسلوب ممتع .. بالنسبة لكتاب ريا وسكينة أعتقد أن لو قرأت بضع صفحات فلن تدعه .. هذا فخ أظنه محكم 🙂
هذا يبدو جميلًا حقًا. قرأت في مكان ما أن رية وسكينة كانتا مناضلتين ضد الاستعمار الانجليزي، وأن القصص التي نسجت حولهما كانت محاولة لتشويه المقاومة. لا أتذكر أين قرأت ذلك، لكن تظل محاولة لتفسير التاريخ.
الكتاب ذو حجم هائل، لا أظن أنه يمكنني قراءته. ربما إن وجدت ملخصًا على الشبكة يمكنني فعل ذلك. شكرا لك على تقديمه.
العفو .. الحقيقة أن الكتاب يستحق أن يحكى عنه وصاحبه بذل جهداً كبيراً لكي يخرجه بأفضل صورة وهذا الجهد تضمن قراءة أكثر من ألفي صفحة مكتوبة بخط اليد .. تصور صعوبة ذلك.
أما عن كون ريا وسكنية مناضلتين فاستناداً للوقائع التي ذكرها صلاح عيسى رحمه الله فهذا كلام بعيد جداً عن الحقيقة وفي الغالب هي محاولة للتغطية على ما حدث فعلياً لأن ما حدث لا يسر أبداً.
الكتاب ضخم حقاً ويحتاج لنفس طويل .. من يدري لعلك تجد وقت له في فترة لاحقة
سأقرأ الكتاب هذه الفترة لأني إذا لم أقرؤه الآن قد لا يتاح لي وقت ،كنا نشاهد المسرحية في الأعياد لأنها تبث التلفزيون الرسمي، نفس الشيء كانت هناك قناة واحدة وقناة تسمى قناة الشباب تبث على الموجة الثانية بداية من الساعة السادسة مساء…
الكتاب ممتع ومفيد جداً ولن تندم إن شاء الله .. ويبدو أن حكاية القناة والنصف كانت موضة في تلك الأيام 🙂