هاه … كيف هي الأخبار ؟
أتوقع أنك أرسلت سيرتك الذاتية لكثير من أماكن العمل لدرجة أنك نسيت لمن أرسلتها بالضبط.
في البداية اكتفيت بارسالها الى مكان أو مكانين لأنك واثق تماماً أن هذا كاف لكي يصلك ايميل الدعوة لاجراء المقابلة.
لكن ولأن الشركات وما شابهها تهوى زعزعة ثقة الموظفين بأنفسهم حتى قبل أن يصبحوا كذلك فهذا لم يحدث قط.
هذا الأمر دفعك لارسال المزيد بعصبية .. الأمر مشابه لردة فعل المقامر .. ترمي النرد وتُقرب القطع البلاستيكية المدورة فتخسر لترمي المزيد باستمرار باحباط وعينين محمرتين.
لماذا تتجاهلونني يا حمقى !!؟ .. أنا لا بأس بي على الاطلاق.
لكن .. لنكن منصفين قليلاً .. الأمر لا يتعلق بالتجاهل على الاطلاق وإنما بأمور أسوء من ذلك.
لنعرف أكثر علينا أن نتعرف على دورة حياة سيرتك الذاتية وما جرى معها من لحظة ضغطك لزر الارسال وانتقال رسالتك الى قسم الرسائل المرسلة.
لجزء من الثانية ستدخل سيرتك الذاتية في نفق مظلم سيجعلها تشعر بالتوتر الذي سيدفعها لشد أطراف الايميل أكثر حول كتفيها.
ستجد نفسها بعد ذلك في فراغ كبير مليء بتلك الأدراج الضخمة التي تراها في المشرحة.
ستصاب بالذعر قليلاً قبل أن تكتشف أن ما بداخلها ليسوا موتى بل أكوام من الرسائل الالكترونية التي لم تُقرأ بعد.
ستشعر بعد ذلك أن هناك من يفتح إحدى تلك الأدراج ويضعها فيه ومن ثم يغلقه في حزم.
الهدوء والبرودة المنعشة .. جميل جميل .. لنغمض أعيننا وننام ونتمنى أن يبقى الأمر كذلك للأبد.
لكن .. للأسف لن تبقى الأمور كذلك للأبد .. في لحظة ما ستسمع السيرة الذاتية جلبة كبيرة في الخارج وتسمع صوت فتح الدرج القابعة فيه .. ذلك الدرج بالذات دون غيره.
الضوء المزعج يغمرها وعينين محمرتين وفم ضخم يتثائب وهو يرمقها في ملل.
يبدو أن حظها العاثر قد جعل موظف الموارد البشرية يختارها من بين عشرات الرسائل القابعة بسلام في أدراج المشرحة.
أمامها الآن ثلاثين ثانية قبل أن يحدث أمرين .. إما أن يضغط موظف الموارد البشرية زر الحذف في تصميم وتنتهي دورة حياتها بسرعة كما الفراشات و اليعاسيب ويبقى الأمل في نسخها الموجودة في مشارح أخرى.
أو أن يحك رأسه في ضيق ويقرر أن يضعها جانباً مع عدد آخر من السير الذاتية.
السير الذاتية التي ستكوّن فيما بعد ما يسمى بالقائمة الطويلة للمرشحين.
لماذا تلك السير الذاتية بالذات!؟
الواقع أن لهذا أسباب عديدة.
دعنا نتكلم بالبداية عن الأسباب المعيارية :
الأمر متعلق .. قبل كل شيء .. بحقيقة أن من سيتفحص السيرة الذاتية هو .. ككثير غيره .. كائن يقتات على البوستات والتغريدات وفيديوهات انستغرام القصيرة.
لهذا ستكون ردة فعل ذلك الكائن عندما يرى سيرة ذاتية مكونة من عدة صفحات هو الحذف أو ما هو أسوء لو كانت مطبوعة على ورق .. سيصبح ذلك الكائن أكثر نظافة في مكان معين من جسمه.
تذكر أن السيرة الذاتية ليست كتاب تاريخ لكي تملئه بكل هذه الأحداث والأسباب البعيدة والقريبة لكونك خارقاً للعادة ولا يوجد مثيل لك إلا في مجرات أخرى ولا وجود لشخصيتك الفريدة في بقية العوالم الموازية.
لذلك سيكون كافياً جداً التركيز على الخبرات الرئيسية مع ملخص بسيط للمهام التي قمت بها في كل مكان عملت به سابقاً.
اترك بعض الوقائع لكي تبهر بها فيما بعد لجنة المقابلة الموقرة.
المعلومات المضللة أو الغير حقيقية ستعطي مفعولاً عكسياً .. لا تنسى أنهم سيجمعون بعض المعلومات عنك فيما بعد لو وجدوا أن الأمر يستحق العناء.
ولك أن تتخيل ماذا سيحدث لو وجدوا بأن خبراتك تلك وهمية.
سيكون هذا .. على الأقل .. مادة دسمة للسخرية الصباحية مع بعض الكعك وكأس من الشاي .. ونحن لا نريد أن يحدث هذا بالطبع فالحياة قصيرة .. وحارتنا صغيرة.
وحتى لو لم تكن تملك أي تجربة عمل من قبل فلا بأس أبداً .. ضع أي خبرة قمت بها سابقاً حتى إن كانت عملاً تطوعياً أو عملاً لعدة أيام قمت به أثناء العطلة الصيفية .. في حالات عديدة سيكون هذا هو تحديداً السبب الرئيسي في اتخاذ قرار مقابلتك وتوظيفك لأنهم يبحثون عن شخص لا خبرات سابقة له في المجال.
لماذا !؟ ..
سأتكلم عن هذا الموضوع فيما بعد ولنبقى في موضوعنا الحالي.
الأمر الآخر هو ضرورة وجود صورة لك ضمن السيرة الذاتية ..
هذه أصبحت من البديهيات كما لك أنت تعلم وصورك موجودة في كل مكان بالفعل فلا تشعر بأي خدش في خصوصيتك.
صورة رسمية تظهرك بشكل جيد وبملامح حاول أن تكون مريحة قدر الامكان لأن تلك التأملات السريعة لمن يراجع سيرتك الذاتية لها ستكون بمثابة مقابلة عمل مبدئية صامتة.
صورة رصينة مريحة للعينين هي ما أنصحك به ولكن ليس لدرجة أن تظهر وأنت تعقد يديك حول صدرك بعينين مبتسمتين واثقتين رأتا كل مجاهل الدنيا .. أعلم أنك تحاول لفت الانتباه ولكن حاول باخلاص أن لا توصل أي رسالة خاطئة لمن يتفحص سيرتك الذاتية ليأخذ بعدها قراراً بأنك أكثر من اللازم ويلقي بسيرتك الذاتية جانباً.
تحدثنا الى هذا الحد عن الأسباب المعيارية لقبول السيرة الذاتية.
أما بالنسبة للأسباب الأخرى الغير معيارية لقبول السيرة الذاتية مهما كان شكلها وطولها وعرضها ورداءة صورتها .. الأسباب التي لا تذكر إلا بشكل شفهي ووراء الأبواب المغلقة فهي متنوعة حقاً.
السبب الأساسي هنا هو أن صاحب السيرة الذاتية سيتم توظيفه بكل الأحوال.
لأن .. في العديد من الحالات .. تكون العملية التوظيفية مجرد مسرحية لا يدري المرشحين لنيل الوظيفة أنها مسرحية وأنهم مجرد ممثلين فيها أو للدقة كومبارسات مطلوب منهم أدوار ثانوية محددة.
لهذه المسرحية منتجين ومخرجين وفنيين ولكنهم .. بالطبع .. لا يظهرون على خشبة المسرح ولا يظهر اسمهم على التترات ولا يوجد دليل قاطع على وجودهم إلا التخمين والظن.
الحكاية مكررة لحد الرتابة .. خذ هذه السيرة واستوصي بصاحبها .. وستكون التوصية على قدر المعزّة والمعزّة على قدر قوة المنصب والتأثير فقد تنتهي عند القائمة الطويلة أو تمر للقائمة القصيرة وتحدث المقابلة وقد تأتي بعدها النهاية السعيدة أو لا تأتي .. كل هذا قائم على توفر الطلبات التي هي أوامر.
السبب الآخر لضمّ السيرة الذاتية للقائمة الطويلة وما يتبع بعدها هو تبادل الخدمات .. ضع قريبي عندك وسأدعمك بميزة حيوية ما … وظف لي فلان وسأوظف لك علتان ..
هذه طريقة مضمونة لتجنب التوظيف الذي يؤدي للشكل الفج لتضارب المصالح .. بدل من أن أوظف خالتي في نفس مكان عملي سأوظّف خالة فلان عندي وسأرسل خالتي لعنده .. وبعدها تبدأ في وقت ما لعبة عضّ الخالات.
ألم تسمع عن لعبة عضّ الخالات !؟
حكا لي أحد المعارف أنه كانت تعمل عندهم زوجة أحد من بيدهم قرار التأثير على مكان عمله .. وانسابت في وقت ما إشاعة تقول بأن الادارة بصدد أخذ قرار فصل تلك الموظفة لسبب ما ..
والذي حدث أن زوجها اتصل في اليوم التالي بالمدير .. وضعتُ ال التعريف عمداً هنا لأنه المدير الفعلي .. سأل الزوج المدير ببراءة عن تلك الاشاعة .. فضرب المدير على صدره في جزع وأخبره أن الحكاية لا أساس لها من الصحة وأنه ممنون تماماً من عمل الموظفة ووجودها .. وبعد يومين صدر قرارين .. الأول بزيادة الدعم الحيوي للمنشأة والثاني بترقية الموظفة إياها وزيادة راتبها ..
هذه نهاية سعيدة حقاً للجميع .. ليس جميعهم للدقة.
هناك أسباب أخرى تتعلق بنوع اجتماعي أو ثقافي معين تريد الادارة أن يتكون الموظفون منه .. عرفت معمل ألبسة إدارته بالمجمل أنثوية بحتة ولا يوجد أيّ ذكر فيها سوى صاحب المعمل فقط.
هنا وفي الحالات السابقة لا تلعب السيرة الذاتية أي دور سوى التواجد كورقة ضرورية من أجل أن يفهم الجميع أننا نزيهون جداً وعمليات التوظيف تتم بكل التزام ومعيارية.
أرى أن وجهك قد امتلأ باليأس والاحباط.
يبدو أنك لا تملك أي معرفة أو قرابة بأي شخص يتمتع بالرضا والقوة في مكان العمل الذي أرسلت سيرتك الذاتية الى مشرحته .. أقصد الى موارده البشرية.
هل معنى كل هذا الكلام أن طرق التوظيف مغلقة بالنسبة لك وأن القضية ليست قضية تنافس عادل سيأخذ الجميع فرصته الكاملة من خلاله من دون أي تحيز أو قرار سابق ؟
لا أبداً .. اجراءات التوظيف النزيهة والحقيقية موجودة فعلاً .. هناك مناصب تعتمد على اختصاصات لا يوجد أقرباء أو معارف يتمتعون بها.
هناك مناصب مهامها متعبة ولا يمكن الاعتماد فيها على المدلل الآتي متخيلاً أنه سيقضي يوماً سعيداً ويأخذ راتباً وفيراً.
هناك مناصب تحتاج لدقة وقدر عال من المسؤولية وهذا لن تجده .. في الغالب .. لدى من أتى أو أتت بناء على توصية من أحد أقربائهم.
لذلك ضع كل هذه الأفكار والوساوس السلبية جانباً ولا تدع مشرحة من دون أن تدخل في إحدى أدراجها سيرتك الذاتية الرصينة.
قرأت مؤخراً عن خبر مدير فصل كامل فريق قسم الموارد البشرية عندما رفضت سيرته الذاتية والرفض جاء في ثوان قليلة، كان يختبر القسم ليرى كيف تسير عملية التوظيف، البرامج المختصة بالتوظيف تتولى الآن مسؤولي مسح كل سيرة ذاتية ورفضها ما لم تطابق شروط محددة أو كلمات محددة وبالتالي الآلاف من السير الذاتية ترفض تلقائياً وفقط من يتقن اللعبة ستصل سيرته إلى إنسان يقرأها.
تبقى العلاقات ومن تعرف أفضل وسيلة للحصول على أي شيء، حتى في الدول التي تهتم بتطبيق القوانين واللوائح، ذو العلاقات الكثيرة لديه فرصة أفضل من شخص ليس له معارف كثر.
البرامج المختصة بالتوظيف كارثة بحد ذاتها كما أسلفت .. تحويل الحكاية الى ما يشبه ارتداء البذلة الرسمية كدلالة مؤكدة على مكانة اجتماعية ما .. وكما قلت من السهل التلاعب دائماً .. برامج تفحص السير وبرامج تصنعها لكي تمر من الفحص بسلام.
العلاقات مفيدة حقاً وهي نوع من السيرة الذاتية التطبيقية ولكن يجب أن تكون الامكانيات هي الفيصل إلا لو كان المنصب متعلق بالعلاقات العامة 🙂
سرد رائع ومعجب كثيرًا بسلسلة الإدارة صديقي عامر
واتفق في ما كتبه الزميل عبدالله في تعليقه حول العلاقات أهم بكثير من المعارف، ورأيت وعاصرت ذلك في أكثر من مرة
شكراً لتشجيعك ودعمك المستمر صديقي محمود 🙂
وبالنسبة لأهمية العلاقات عن المعارف فأنا معكم بذلك .. العلاقات مفيدة جداً في اختيار الموظف المناسب بعكس مبدأ المعارف الذي لا يأتي منه غير وجع الرأس ولعبة عضّ الخالات :))