أحياناً يرغمك حدث ما أو كلام سمعته على العودة بذاكرتك الى الوراء، هواجس معيّنة لا تكف عن النبش في أرجاء ذكرياتك وهو تبحث عن صلة ما بينها وبين أمور حدثت لك أو بقربك أو سمعت عنها، المشكلة أن ذاكرتك لا تسعفك دائماً فتقدم لك ما تريد على طبق من ذهب أو من فخار حتى.
للذاكرة ألاعيبها وهي تتلذذ في إحباطنا وخاصة لو حاولنا الغوص خلالها الى أماكن بعيدة، وسيكون الأمر أصعب بمراحل لو حاولت تذكر أشياء حدثت في أماكن مختلفة عن تلك الحالية، الأماكن القديمة التي عشت فيها طفولتك أو صباك أو شبابك المبكر، الأماكن التي لم تعد تراها وانقطعت صلتك عنها منذ وقت طويل لدرجة أن أصبح لديك ذكريات في أماكن أخرى حسبت أن إقامتك بها ستكون لوقت قصير قبل أن تكتشف أنها أصبحت أماكن لذكريات أخرى.
انقاذ القطة
كنت أجلس في مكتبي في العمل عندما سمعتُ مواء قطة متواصل لعدة مرات في النهار، في البداية تجاهلت هذا على اعتبار أن المبنى السكني المواجه لنا يمتلك حديقة كبيرة تحوي العديد من القطط لذلك فمن الطبيعي سماع أصواتها خلال النهار ولكن صوت المواء هذا عاد ليتواصل في اليوم التالي على نحو دفعني للإصغاء والتدقيق بحثاً مصدره واكتشفت أنه يأتي من أعلى غرفة صغيرة تستعمل كمخزن مبنية في أبعد زاوية ضمن حديقة المبنى السكني المقابل.
هكذا تأكدت أن قطة صغيرة عالقة هناك، لابد أنها خافت من شيء ما بشكل دفعها للتسلق ومن ثم أصابها الخوف من النزول فبقيت هناك تموء لعل أمها تفعل شيئاً بخصوص ذلك، المشكلة أنني لا أجيد التسلق وقد تحدث إشكالية ما لو رآني أحد الجيران وأنا أحاول فعل شيء ما.
في البداية اقتربت من الغرفة ورميت لها بعض طعام القطط الذي أحمله معي في الحقيبة لعلها لو شبعت ستستطيع التفكير بتعقل والنزول من سطح الغرفة، لكن الذي حدث أنها انشغلت بالطعام لدقائق ثم عادت للمواء من جديد.
في النهاية قررت أن أبحث عن عصا طويلة وأمدّها نحو سطح الغرفة لعل القطة تنزل من خلالها، سألت أحد الزملاء عن إمكانية وجود مثل هذه العصا ثم عثرتُ على لوح خشبي طويل أمسكته وخرجت واقتربت من الغرفة ومددت اللوح وانتظرت اقتراب القطة التي هربت على ما يبدو الى الطرف اﻵخر من السطح.
رآني بعض بعض زملاء العمل فسألوني في دهشة عن ما يحدث فأخبرتهم بالحكاية فتقدم أحدهم .. وهو بالمناسبة يحب القطط مثلي .. وصعد لسطح الغرفة وحاول إمساك القطة التي أصيبت بالرعب وقفزت نحو اﻷرض بعد أن تعثّرت عدة مرات بين حائط الغرفة وشجرة قريبة منها، في النهاية ركضت مبتعدة عنا وتم انقاذها :).
بعد منتصف الليل
أحب الاستماع الى البرامج الاذاعية وخصوصاً مسلسلات الرعب أو الغموض وكانت أولى تجاربي بهذا الخصوص هي حلقات برنامج “ظواهر مدهشة” الاسبوعية التي كانت تبثها إذاعة دمشق زمان.
هذا الحب دفعني للاشتراك في خدمة “أوديوهات” وهي خدمة مدفوعة تستطيع الوصول لخدماتها عن طريق تطبيقات اﻷجهزة الذكية، المميز في هذه الخدمة أنهم حولوا جزءاً كبيراً من سلسلة “ما وراء الطبيعة” لاصدارات صوتية بعضها بالفصحى وبعضها باللهجة المصرية.
الى جانب ذلك هناك العديد من الاصدارات الخاصة بالخدمة منها .. وهو السبب المباشر في اشتراكي بها .. برنامج موسمي اسمه “بعد منتصف الليل” والفكرة مستمدة من عددين خاصين من سلسلة “ماوراء الطبيعة” لكاتب السلسلة الدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله وهو يتخيل وجود برنامج اذاعي يستقبل مكالمات الناس عن تجاربهم المخيفة مع ظواهر ما ورائية ويكون فيها بطل السلسلة رفعت اسماعيل ضيفاً دائماً على البرنامج، وقد أخذت الكاتبة شيرين هنائي الفكرة وتخيلت أن البرنامج قد عاد بشخصية مهاب عمارة مقدم البرنامج والضيفة الدائمة سهير زاهر ولم تقتصر الحكاية على استقبال المكالمات بل تعدتها الى مشاركة الشخصيات نفسها في أحداث وقصص عديدة.
البرنامج في موسمه الرابع وأنا أستمع له عادة أثناء تناول الطعام أو في أوقات المساء حيث نجلس أنا وابنتاي لنستمع الى ما تقوله الشخصيات ونتخيل ما يحدث معها، هذا سبب للتجمع العائلي حول شيء واحد في زمن أصبحت أسباب هذا التجمع قليلة بالاضافة الى أن الخيال يفتح الباب للتساؤل والنقاش حول الكثير من اﻷمور وخاصة لدى اﻷطفال.
الامساك بالقمر
انتهيت منذ فترة من قراءة كتاب “الامساك بالقمر” لمحمود الورداني الذي حاول بإصرار التوثيق من خلاله لحياة العديد من صعاليك الأدب والصحافة المجهولين أو النصف مجهولين الذين لم يعرفهم الناس العاديون على مستوى كبير، أولئك الذين فضلوا التمتع بحريتهم على الوقوع في قيود الشهرة والتظاهر وما يصحُ أمام الناس وما لا يصِح.
الكتاب يحوي بعض من ذكرياته أيضاً وأكثر ما آلمني تلك المتعلقة باعتقاله أكثر من مرة من قِبل زوّار الليل هو وزوجته بتهمة الشيوعية واضطرارهم في إحدى المرات لترك ابنتهم الرضيعة عند جدّتها.
أحبُ كُتب السير الذاتية لأن العديد منها هو محاولة لتوثيق التاريخ الشعبي وتفاصيل حياة الناس بمعزل عن التاريخ المفروض غضباً والمتعلق بالأهواء السياسية.
التعليقات :