المصطبة

العسكري ذو العباءة البنية

السنوات 2001 – 2002

ماذا يحدث لو تولت شخصية تافهة سلطة ما أو كانت تمتلك صلاحية التأثير على حياة الناس ؟

سأحكي لك هذه الحكاية لعلها تجيب عن هذا السؤال …..

بعد أن أنهيتُ أول ستة أشهر من خدمة الجيش التي كانت في بلدة “مِصيَاف” قرب الساحل السوري، كان عليَّ إكمال الخدمة في إدارة الفيلق الأول الذي كان في منطقة بين العاصمة وبين مدينة السويداء.

إدارة الفيلق هذه كانت قطعة عسكرية تقليدية تضم مبنى مركزياً محاطاً بتشكيلات عسكرية من أنواع مختلفة موجودة لحمايته ومعها بعض الأقسام الإدارية التي وُجدت لتنظيم الأمور في المبنى المركزي وفي التشكيلات على حد سواء.

من بين تلك الأقسام كان هناك قسم يسمى “التنظيم والإدارة” مهمته فرز الرُتب الجديدة القادمة من عساكر وخِلافه ضمن الفيلق، يرأس هذا القسم ضابط برتبة عميد ويتبع له من ذمن ما يتبع مساعد أول يقوم بإعداد خطط الفرز.

وهنا مربط الفرس .. كان هذا المساعد بحاجة لمفتاح بينه وبين العساكر لكي يؤدي لهم خدمات فساد مدفوعة مختلفة بدءاً من فرزهم لتشكيلات وأقسام مريحة وانتهاءاً بالخدمة الذهبية وهي قضاء الخدمة في البيت لقاء مبلغ شهري يختلف تبعاً لقوة مساومة العسكري ولا ينزل طبعاً تحت سقف معين.

هذا المفتاح الذي كانت مهمته الأساسية استدراج القادرين على الدفع ومن ثم مساومتهم والاتفاق النهائي بعد مشاورة المساعد كان عسكرياً بلا رتبة وبلا أي نوع من التعليم، شاباً ضئيل القامة والحجم لا تكاد تلحظه لو مرّ أمام بصرك في الحياة الاعتيادية.

لكن من قال أن الحياة في الجيش السوري حياة اعتيادية!!؟

في بداية أيامي هناك كنت ألاحظ أن هذا العسكري يتصرف بثقة نفس زائدة وغير مبررة ويعامل من حوله بطريقة تشعرك بوجود تكبر خفي يداريه وراء عينيه الثقيلتين وابتسامته الكريهة.

كان قد تقرر أن تكون خدمتي في نفس القسم المتواجد فيه هو ولكن عندما لاحظت حركات إبتزاز معينة تصدر منه ومن المساعد شعرت أنني وقعت ضمن عصابة لصوص لا تشبع هنا تدخلت وساطة قام بها والدي بنقلي من القسم كله نحو القسم المالي وهذا ساعد في التخفيف كثيراً من حماسهم وجعلهم يتركوني وشأني.

ما اكتشفته خلال الأيام التالية من خلال أحاديث من حولي أن جميع من في الفيلق يخاف من ذلك العسكري لأنه يستطيع ببساطة أن يؤذي أي شخص منهم بأن ينقله الى تشكيل من تلك التشكيلات القتالية التي تقضي أغلب الليل في التدريب والعقوبات والتي لا يحصل أفرادها على الإجازات إلا نادراً، الجميع يخاف منه من جهة ومن جهة أخرى لا يريد أيّ منهم أن يُغضبه لعله يحتاجه لو وقع في مشكلة ما .. وهذا وارد في مجتمع الجيش.

المشكلة أن ضرر ما يقوم به قد يمس أي شخص بطريقة أو بأخرى ولو كانت غير مباشرة، بالنسبة لي كان الضرر هو وجود رقيب سيء الأخلاق ومن النوع الواشي في القسم المالي .. حيث بقيت حتى آخر يوم لي في الجيش .. كان من المفترض أن تكون خدمته في تشكيل قتالي ولكن مبلغاً مالياً قد دُفع وتسبب بنقله خارج التشكيل وتسبب لي ذلك في سلسلة من التجارب الغير سارة مع ذلك الرقيب.

ويبدو أنه كان يشعر بفراغ كبير في نفسه وبشعور بعدم الجدارة لأيّ شيء، لذلك كان من عادة ذلك العسكري أن يتجول بعد انتهاء الدوام مرتدياً عباءة بُنية من تلك التي يرتديها شيوخ القبائل يبدو أنها كانت تعطيه نوعاً من السلام النفسي لدرجة أنك لا تكاد تراه من دونها وأعتقد أنه كان يلبسها أيضاً لكي تداري ضئالة حجمه أمام الناس.

تراه يقضي أغلب الوقت متنقلاً بين الأقسام والمكاتب بين من يدعوه لكأس شاي أو للغذاء أو لسهرة حافلة بالمكسرات والمياه الغازية والأغاني، وهو في وسط الجلسة يحاول جاهداً أن تبقى الأبصار والأذان مسلّطة عليه.

وبطبيعة الحال ليس جميع الناس من ذلك النوع الذي يخاف ويسكت أو يتجنّب بالحد الأدنى، لذلك وقع خلاف ما بينه وبين رقيب ينتمي لنفس قسم ذلك العسكري ذو العباءة البنية، والمؤكد بالنسبة لي أن العسكري ذو العباءة البنية قد شعر بالخوف من هذا الخلاف لأن هذا قد يتبعه تقليل من فعّاليته وقيمته أمام من حوله ولو بشكل ضمني، ولأنه لم يكن يحتمل وجود أيّ احتمال من هذا النوع فقد ذهب في خلافه لمرحلة الفجور في الخصومة لدرجة أنه منع الرقيب من دخول دورات المياه الملحقة بالقسم وأجبره على الذهاب لدورات مياه عامة قذرة جداً، وفضل ذلك الرقيب الذهاب إليها على أن يهادنه أو يتنازل عن موقفه تجاهه.

ولأن الحياة مخلوقة ومعها أدوات تصحيح تمّكنها من إعادة كل شيء الى نصابه، كان لابد من أن ينتهي كل هذا، وكانت النهاية بسيطة جداً، انتهت خدمة العسكري واكتشف بين ليلة وضحاها أنه فقد مكانته بشكل كامل ومعها العباءة البنية نفسها لأن عودته لحياته الطبيعية قد أعادته لحجمه الطبيعي من جهة ومن جهة أخرى أجبرته على البحث عن عمل ولا أحد يعمل وهو يرتدي عباءة.

ولأنه لا يملك أي خبرة في أيّ عمل كان العمل الوحيد الذي وجده هو عامل في متجر بيع حقائب يقع في المنطقة التجارية في وسط مدينة حلب.

هنا كان المشهد الختامي الذي حدث كما سأرويه الآن .. كان العسكري الذي فقد الآن عباءته البنية يكنس الأرض أمام المتجر عندما مرّ ذلك الرقيب الذي كان قد أنهى خدمته هو الآخر .. وقف الرقيب أمام العسكري وهو ينظر له بلا أي تعبير على وجهه .. ابتسم العسكري باضطراب متأملاً أن يسلّم الرقيب عليه ويمضي في سلام.

لكن الذي حدث أن الرقيب بصق أمام مكنسة العسكري مباشرة ثم تابع سيره في هدوء … صمت العسكري قليلاً ثم حرّك مكنسته وتابع ما كان يقوم به.

الدنيا تُهادن التافهين أحياناً ولكن .. في وقت لاحق .. تكون أدواتها التصحيحية فعّالة جداً.

One Comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *