أرغب اليوم في التحدث حول أحد العقد النفسية المهمشة التي لا تذكر عادة وهي عقدة السبورة .. الواقع أن عقدة السبورة هي عقدة يقع فيها الكثيرون و ….
لحظة !! .. أرى يدك تمتد لتغلق لسان المتصفح قبل أن تقرأ بقية الكلام !؟ .. ماذا !؟ .. كنت تتوقع أني سأتكلم كالعادة عن أماكن العمل ومشاكل الموظفين وألاعيب الادارات … إنني بالفعل سأتكلم عن تلك الأجواء …..
آآآآآه .. لقد حسبت أن كلامي عن عقدة السبورة هو خارج السياق السابق وأنه لم يعد هناك شيء أقوله في ذلك الصدد … بالعكس تماماً أنا في السياق نفسه .. اصبر قليلاً وأعطني بعض الوقت وستعرف ما هي الحكاية بعد قليل جداً.
عقدة السبورة هي من العقد النفسية المنتشرة بشكل كبير والتي تبدأ في التشكل مع بداية الدخول الى المدرسة والجلوس على المقعد ورؤية أول معلم يقف شارحاً مسألة ما وهو يكتب بإيقاع سريع على السبورة .. مشهد مبهر فعلاً ..الانسان فوق العادة الذي يتكلم فيصغي له العشرات ويكتب فيكتبون وراءه.
هكذا يرتبط هذا المشهد في العقول بالريادة في العلم ويتحول لتعريف بصري للشخص الذي يعرف كل شيء ويستطيع أن يكتب أي شيء في أي وقت .. الشخص الذي يقف أمام السبورة أو لنقل صاحب السبورة.
لذلك يحلم الكثيرون خلال سنوات الدراسة بأن يقفوا هم أيضاً أمام سبورة ما ليشرحوا لغيرهم تلك الأمور الغامضة التي يتكلم عنها المدرسون .. يحلمون بذلك حتى لو لم يتكلموا عن حلمهم هذا بشكل صريح لأسباب مختلفة.
ومع الأيام يتخرج الطلاب ويحملون شهادات جامعية في شتى العلوم .. البعض منهم يلتحق بسلك التعليم سواء من خلال المدرسة أو من خلال الجامعة نفسها … والبقية سيغلقون قلوبهم على حبهم الأسير ليتحول الأمر الى عقدة خفية موضوعة في آخر درج من دروج الأنا السفلى.
لكن .. في لحظة ما يعود ليستيقظ هذا الحلم كما تستيقظ وحوش أفلام الرعب ..
وكما أن لاستيقاظهم أسباب .. قد لا تكون وجيهة دائماً .. يكون لاستيقاظ عقدة السبورة عند بعض الموظفين أسباب أيضاً .. قد لا تكون مقنعة دائماً.
يبدأ الأمر عندما تقع أنظار أحد الموظفين الطموحين على تلك السبورة القابعة في إحدى زوايا مكان العمل.
لماذا توجد سبورة أساساً في مكان العمل وهو ليس مدرسة أو معهد تعليمي !؟
الواقع أن لوجودها احتمالات عديدة … أحياناً يقوم قسم المشتريات بجلبها من أجل دورة تدريبية طلبت الادارة تقديمها للموظفين من باب الفلكلور طبعاً ولكي يظهروا للمنافسين أننا أيضاً نقوم بتلك الأشياء الجيدة … الحقيقة أن التدريبات تستحق حديثاً مستقلاً بكل جدارة لذلك سأدع الكلام عنها لوقت آخر.
يحدث أحياناً أن يحضر مدير ما إحدى تلك الجلسات التي تتكلم عن أفضل الممارسات لتحسين طرق ادارة الموظفين أو عندما يجلس مع بعض زملائه المدراء في أقسام أو أماكن عمل أخرى ويتبادلون استعراض عضلاتهم الادارية وكل منهم يحاول إفهام البقية أنهم حمقى وأنه البطل الحكيم الوحيد بينهم.
في نهاية الجلسة تتبخر من عقل المدير كل النصائح التي تطور من ايقاع وجو العمل فعلاً وتبقى الأمور الشكلية .. ومن بينها نصيحة بوضع سبورة في القسم وكتابة مهام الموظفين عليها.
تلتمع عينا المدير في بهجة .. هذا أمر جميل سيثير حقد بقية الأقسام ولا شك .. يرسل طلباً لشراء سبورة ليستلمها المدير الهمام بعد أيام ويكتب عليها بخط جميل لامع مهام الموظفين ليومين .. للدقة يكون اليوم الثاني هو آخر يوم في الاسبوع ويعود المدير من العطلة الاسبوعية وقد نسي كل شيء عن السبورة.
أحياناً يمر من أمامها ويلمحها فيضيق عينيه لثواني ليتذكر سبب وجودها هنا ويتابع سيره بعدها هازاً رأسه باستغراب.
لنعد الى موظفنا الطموح الذي لمح تلك السبورة القابعة في مكان ما.
الواقع أن تلك اللحظة مماثلة للحظة اكتشاف أرخميدس لقانون الطفو .. الفرق هنا أن أرخميدس كان عارياً بخلاف الموظف لحسن الحظ.
يقوم الموظف ويحمل السبورة ويضعها بجانبه أو وراءه وبعد ذلك ستبدأ ساعات لا تنتهي من المرح والفائدة .. الفائدة التي سينالها الموظف الطموح تحديداً.
سيكتب عليها أولاً بعض المصطلحات والكلمات الغامضة .. مصطلحات عميقة تبعث القشعريرة .. سيتأمل تلك الكلمات بعدها في رضا .. ها هو الفخ قد أصبح جاهزاً بانتظار الأحمق الذي سيقع به.
لن يطول الأمر كثيراً وسيأتي ذلك الأحمق سريعاً ويسأله ببراءة عن معنى أحد تلك المصطلحات .. لن يسأله عليها جميعاً حتى لا يتهمه أحد بأنه جاهل كدواب الأرض.
هنا سيستل الموظف قلم الحبر ويبدأ بالشرح وهو يكتب على السبورة كلمات لا تقل غموضاً .. المفترض أن لا تطول الحكاية لأكثر من دقيقة أو دقيقتين .. هذا هو المفترض ولكن ولأننا نكره المفترض لذلك سيطول الأمر نوعاً وستبدأ الحكاية بلفت نظر بقية الموظفين سواء الجالسين حوله أو المارين بالصدفة من المكان.
هكذا سينشأ تجمع من العيون الخرساء التي تراقب كل شيء وتهز رأسها بحكمة وملل من دون أن تجرؤ على أي طرح أي سؤال .. نحن نعرف كل شيء وأكثر.
قد يندفع أحد الواقفين ويبدأ بمناقشة موظفنا الطموح حول بعض النقاط الذي تكلم عنها .. هذا فخ آخر لا يقل إيلاماً عن الأول .. لقد نسي الأحمق أنه ليس من يقف أمام السبورة ويمسك القلم ونسي أيضاً أن احراجه لموظفنا الطموح سيترتب عليه مشاكل مستقبلية عديدة لأنه سيضع له اساءته هذه على الرف بانتظار الوقت المناسب ليرد له الكيل بألف مكيال …
والذي سيحدث أنه إما أن ينتبه الى ذلك الفخ سريعاً فيتراجع وهو يهز رأسه مبدياً إعجابه بموظفنا الطموح أو أن يخرج من الحكاية كلها بسواد الوجه والعبارات الساخرة الخفية من جمهور المشجعين .. إما أن تهز رأسك مثلنا وإلا فالويل لك أيها الوغد.
حكا لي أحد الأصدقاء أنه كان يعمل في قسم يتكون من مدير ومجموعة من الموظفين من بينهم موظف مغضوب عليه منع عنه المدير الترفيعات لأسباب معينة .. وما فعله ذلك الموظف أنه وضع السبورة بجانبه وأخبر بقية الموظفين أنه سيعطيهم دروساً ستجعلهم خبراء في اختصاصهم.
عرف المدير ما جرى من خلال عصافيره .. والذي حدث بعدها أن قراراً بزيادة الراتب قد صدر لذلك الموظف المغضوب عليه لتعود السبورة بعد ذلك الى مكانها القديم.
هذا شخص ذكي عرف من أين تُأكل كتف المدير ..
لذلك يا صديقي عليك أن تكون منتبهاً ولا تقع في أفخاخ مماثلة فليس هناك في مكان العمل من سيعلمك أو يعلم غيرك كلمة واحدة خاصة في اختصاصه لأنه معنى ذلك هو خلق منافس حالي أو مستقبلي له وقد يصبح مديره في نهاية الأمر.
لذلك لو رأيت في وقت ما موظفاً يمسك قلماً ويكتب على سبورة من دون أن يكلفه أي أحد بمهمة تدريبية ما فما عليك فعله هو أن تمر وتلقي السلام من دون أن تتوقف.
وسيعيد موظفنا الهمام السبورة الى مكانها بعد أن يُعطوه ما يريده.
هذه جديدة لم تمر علي من قبل، وجميلة.