الانسان مخلوق عجيب حقاً ولديه العديد من طرق التفكير الخالية من أي منطق خصوصاً عندما يتعلق الأمر بشعوره بالاستحقاق لأمر ما .. بالنسبة لكثيرين يكفي هذا الشعور لكي يعتقد أنه على صواب مطلق وتبدأ المظلومية بالتشكل بينه وبين نفسه لينطلق بعدها محاولاً إعادة حقوقه المسلوبة .. سترى عيناك عندها أشياء كثيرة لن يكون النور أحدها.
وستصبح الحكاية أسوء لو كان هذا الانسان موظفاً في مكان عمل ما.
عرفت ابراهيم منذ اليوم الأول من عملي في تلك الشركة .. والسبب أننا بدأنا العمل في نفس اليوم .. ولأن الموظفين الجدد لبعضهم كما تقول إحدى الحكم الحمقاء فقد نشأت بيننا شيء أشبه بصداقة عززتها الظروف التاريخية في كوننا ما زلنا في عداد الغرباء.
ابراهيم شاب في منتصف الثلاثينات تبدو عليه ملامح الطيبة والهدوء ومن السهل أن يدخل قلبك لأول وهلة .. إنسان لا يحب المشاكل مطلقاً ولا يجيدها ويهرب منها لو حدث أن وقعت في مكان ما من حوله .. قد يخرج من الغرفة ببساطة أو يقرر أن الوقت قد حان لتلك المكالمة التي كان عليه إجراءها منذ سنوات.
وأنا كنت دقيقاً في وصفه بأن الطيبة تبدو على ملامحه .. وأنا أتحدث هنا عن كلمة “تبدو” تحديداً .. لأن الظاهر شيء والحقيقة شيء آخر .. وقد عرفت ذلك بوقت متأخر للأسف.
إبراهيم خريج جامعة الاقتصاد قسم ادارة الاعمال .. نستطيع القول أن هذه هي البداية المبكرة للمأساة.
لم هي كذلك !؟ .. لأن الحقيقة العلمية الراسخة عند ابراهيم .. كما اكتشفت فيما بعد .. أن شهادته الجامعية تؤهله بشكل طبيعي لكي يكون هو المدير عندما يحين الوقت لاتخاذ جهة ما قرار بهذا الخصوص.
وأنا لا أريد أن أخوض في هذا الموضوع كثيراً ولا يحتاج الأمر لذلك.. تكفي حقيقة أن الداخلين لهذا القسم ليس عليهم الخضوع لفحص مقابلة للتأكد من أنهم يملكون صفات أو شخصيات قيادية.
هكذا يستطيع أي شخص الدخول الى القسم طالما حقق درجات معينة في مواد مختلفة ليس كلها منتمي بالضرورة الى المسار التعليمي الخاص به .. ولهذا السبب بالذات استطاع ابراهيم الدخول الى كلية الاقتصاد قسم إدارة الأعمال.
القسم الذي عُينا فيه في تلك الشركة كان أشبه بكومة من الخراب .. مهام كثيرة لا تعرف ما الفائدة منها وترهل في الاجراءات وموازين معينة يعتمد عليها المدير في التأكد من أن الأمور تجري في طريقها الصحيح .. وأقصد هنا الطريق الذي لا يتواجد هو فيه حتى لا يتسبب فعل ما .. مهما كان خيالياً .. في دهسه ووضعه خارج الخدمة.
هكذا كانت الحياة في القسم الى أن أتت إدارة جديدة انتهت الى نتيجة بأن الوضع لا يمكن أن يستمر في قسمنا بهذا الشكل.
وأتى ذلك اليوم الذي دخل الى قسمنا مستشار جاء خصيصاً لكي يشخّص الأوضاع ويرى ما الذي يمكن فعله.
وبدأت بعض الاجراءات التقليدية .. الاجتماعات الفردية والأسئلة التي لا تنتهي والوقوف بجانب كل موظف لكي يعرف بالضبط ما يفعله .. لقد فعل المستشار ما يفعله أي عالم بيئة اكتشف نهراً جديداً في بقعة مجهولة .. أخذ الكثير من العينات وسار على قدميه من منبع النهر الى مصبّه في صبر ويقظة.
والظاهر أنه لم يرى ما يسر .. بيني وبينك كنت سأتفاجئ لو حدث عكس ذلك.
وبعد حوالي الأسبوعين جاء المستشار ومعه ورقة مرسوم عليها الهيكيلة الجديدة للقسم.
وبدأت مأساة ابراهيم منذ تلك اللحظة.
الهيكلية الجديدة أعادت تشكيل القسم لينقسم الى عدة وحدات .. وكنت أنا مديراً لإحداها وكان ابراهيم موظفاً ضمنها.
المشكلة بالنسبة لابراهيم أنني لست خريجاً من قسم إدارة الأعمال وأن شهادتي الجامعية هي أقل من شهادته الجامعية.
هذه جريمة لا تغتفر .. هنا نستطيع القول أن المظلومية قد أنتجت استحقاقاً .. وتحول الاستحقاق الى هاجس دائم لدى إبراهيم الى درجة أنه تخلى عن صمته الاستراتيجي وسأل المستشار أمامي عن سبب تعييني أنا بالذات لأكون المسؤول عن الوحدة !!.
كانت إجابة المستشار أنني أملك خصائص شخصية مناسبة تماماً للدور الذي سألعبه في نجاح العمل .. هنا عاد ابراهيم الى صمته الاستراتيجي محاولاً إخفاء الغليان الذي كان يشعر به في كل ذرة من جسمه.
سارت الأمور على ما يرام خلال الأشهر الماضية وبدأ القسم يسترد عافيته .. لا أزعم بالطبع أنني المسؤول الوحيد عن ذلك .. هذا نجاح جماعي بحت وقد لا يعترف الجميع بذلك ولكن هذا لا يغير أي شيء من الحقيقة.
وكنت أعمل على أن يأخذ إبراهيم مكاناً مميزاً في القسم لا لشيء سوى لأني مقتنع بأنه يستحق ذلك فعلاً.
لكني لم أكن أشعر بالغليان المشتعل داخل أعماقه .. كان يجيد التظاهر بأن الأمور طبيعية أمامي .. والحقيقة أنه كان يعبر عنه بشكل سيء جداً وبطريقة لم أكن أدري عنها شيئاً في ذلك الوقت.
كان .. ببساطة .. قد أعطاني دور المتسلط الغير مستحق لمنصبه في حكايا عديدة قام بإلقائها على العديد من الموظفين ومن بينهم من سيصبح مديرنا فيما بعد .. أنت تعرف كيف تلوى تفسيرات العديد من الأمور .. هذه الحكايات تسببت بوضعي تلقائياً في خانة الأشرار وكانت لملامحه وسكناته الطيبة التي يتمتع بها دور فعّال بهذا الصدد.
وجاء المدير الجديد في النهاية وكان أول شيء فعله هو نسف الهيكلية الجديدة وإعادة الأمور الى المربع صفر .. لم تعجبه على ما يبدو تلك الهيكلية التي أتت به أو لعله خاف من نسمة برد قد تصيبه فيما بعد فأقفل الباب بالكامل .. وقد يكون الأمر ليس أمره .. وقد تكون كل تلك الأسباب مجتمعة.
وكما لك أن تتوقع كان ابراهيم أسعد شخص بذهاب الهيكلية الجديدة التي كان يدعي أنها هي من حجّمته ولم تدعه يُظهر مهاراته الحقيقية.
الأوضاع الآن أصبحت ممتازة بما لا يقاس خاصة أن المدير هو أحد أصدقاءه الآن ..
ولكن الذي حصل أنه لم يحصل شيء مما تمناه ابراهيم .. هو تلقى ترقية بالفعل وأصبح أحد المدللين لدى المدير الجديد ولكن هذا شيء ورغباته في الادارة كانت شيئاً آخر لدرجة أنه اشتكى مرة أمام الجميع أنه لم ينل فرصته أبداً مثل ما حدث مع الآخرين.
وبعد فترة لا بأس بها ونتيجة مشاكل مالية تعرضت لها الشركة كان ابراهيم من القافزين من السفينة الغارقة نحو سفينة أخرى.
نستطيع القول هنا أنه الآن أمام فرصة طازجة لكي ينال فرصته التي حلم بها دائماً .. لكن الذي لم ينتبه له ابراهيم أن المكاسب الذي حصل عليها خلال فترة وجوده في الشركة كانت نتيجة وجود حاضنة شعبية له كانت تعطيه ما يستحق وفي أوقات عديدة أكثر مما يستحقه .. وهو فقد بذهابه الى تلك السفينة الأخرى تلك الحاضنة الشعبية التي تحتاج لشروط لكي تتكون .. ويبدو أنها ليست متوفرة هناك.
لذلك لم يكد يكمل سنته الأولى حتى وجد نفسه في احتفال بهيج ضم مجموعة كبيرة من الموظفين وذلك بهدف توديعه هو شخصياً ..
وكعادته كما دخل .. خرج.
انتهت القصة عند هذا الحد.
لكن .. يبقى هناك سؤال .. ماذا كان من الممكن فعله بالنسبة لابراهيم حتى لا يخوض في مراحل المظلومية والاستحقاق وما تلاها من أشياء لا تسر ؟
الواقع أن ابراهيم قد حدد هدفه بشكل واضح ولكنه .. للأسف .. لم يعرف كيفية اكتساب الأدوات اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
الصفات والمهارات القيادية يمكن اكتسابها مع التمرن والوقت وهناك تكتيكات صالحة لكل نوع من أنواع الشخصيات ولكن بقي ابراهيم بدلاً من ذلك قابعاً في لحظة ثابتة لا تتغير من الشعور بالظلم معتمداً على حقيقة اختلقها بنفسه على أن شهادته الجامعية تكفي وحسب من دون أي شيء آخر غيرها.
لكن الذي حدث قال أموراً غير ذلك.
هذا الشخص عالق في حلقة واحدة من حلقات الحياة يرفض أن يتجاوزها، وأدت في النهاية إلى دماره.
نعم للأسف .. لهذا يكون الاستعداد لسماع النصيحة منفذ نجاة لا يستعمله أغلب الناس خصوصاً هذه الأيام
نعم الادارة فن متكتسب من تجارب العمل ولا يأتي من الشهادة