ها أنت أخيراً !! .. تعبت وأنا أتنقل بين الأقسام والمكاتب باحثاً عنك .. سألت العديد من الموظفين الذين ضيّقوا أعينهم وهزوا رؤوسهم غير آبهين وعادوا لينهمكوا بأعمالهم أو ليتظاهروا بذلك أيهما أقرب.

يبدو أن Orientation لم يكن ذا فائدة تذكر .. لم أتوقع منهم في العموم أي شيء آخر غير ذلك .. ومن يريد تذكر وجود موظف جديد غير موظف ما من قسم الموارد البشرية ولأغراض تتعلق بالمهام لا أكثر.

أرى أنهم أعطوك طاولة وجهاز حاسب وأقلاماً وبعض من تلك الأشياء التي توضع على المكتب ولم يعد يستعملها أحد .. نوع من ملأ السطح الخالي لا أكثر.

هذا جميل وأنت محظوظ فعلاً .. في أماكن عمل سابقة تطلّب الأمر بضعة أسابيع ليسلموني أدوات العمل وقضيت الوقت جالساً على أحد الكراسي أنتظر.

أنتظر ماذا !؟

الحقيقة أنني لا أعرف بالضبط .. الأمر شبيه بأن تجلس في محل الحلاقة لتنتظر دورك وأنت لا تعرف متى سيحدث هذا بالضبط .. هناك نوع من الغموض الذي يلف القضية .. أنت تعرف تلك القرارات البديهية التي لا تصدر بسهولة لأسباب مجهولة .. والسبب في كونها مجهولة متعمد .. أعتقد أنها أسباب تافهة أصلاً ولكنهم أعطوها بعض الغموض لكي تظهر وكأنها عميقة ولا مفر منها.

لذلك أنت محظوظ يا صديقي .. أنت أصبحت جاهزاً لدورة تدريبية ما ستفهم من خلالها .. آمل ذلك على الأقل .. كيف ستنفذ المهام التي سيسلموك ياها في وقت ما قريب.

لا أضمن لك أن يحدث هذا وإن حدث لا أضمن لك أن يكون لهذا كله نتيجة عملية وعلى الغالب ستتعلم كيف تسير الأمور بالطريق الصعب … التجربة الشخصية.

دعك من كل هذا وقلي لي : كيف تسير الأمور معك ؟ .. ستشعر في البداية أن الوقت يمضي ببطء شديد وستتحسن الأمور مع الوقت.

ماذا !؟ .. تشعر أنك غريب وأن الجميع يتعامل معك بتحفظ وببرود ؟

هذا طبيعي يا صديقي .. إنهم لا يريدونك أصلاً وسيكون يوماً تاريخياً ذلك اليوم الذي سيسمعوا فيه أنك كففت عن القدوم.

لماذا وظفوك إذن !؟

إنك يا صديقي تخلط بين طرفين .. الادارة هي من وظفتك لسبب ما .. الهيكلية تتطلب وجود منصب في هذا المكان أو قد يكون مديرك قد طلب موظفاً جديداً لأن وعاء المهام قد طفح بما فيه وصار من اللازم .. للأسف .. وجود شخص إضافي في قسمه.

أما الموظفون فحكاية أخرى .. الأمر شبيه بتعامل الجسم مع الخلايا الغريبة .. سيرفضها ويحاول التخلص منها بشتى الوسائل.

أنت أتيت لتشاركهم مساحة العمل والأوكسجين وأمور أخرى أخطر وأكثر أهمية .. الله وحده يعلم ماذا سيحدث في المستقبل .. أنت مصدر خطر محتمل بالنسبة لهم.

ولأن نظرية المؤامرة فعّالة وتعمل في كل مكان فأنت على الغالب جزء من خطة شيطانية تهدف لاستبدال أحدهم بك .. ثم إنهم لم يعرفوا الكيفية التي ستتطور بها بعد .. هل أنت عصفورة زُرعت بينهم !؟ .. هل لديك أقارب في الادارة !؟ .. هل ستشكل خطراً على مكاسبهم المتخيلة… ترقياتهم أو علاواتهم!؟.

فوق كل ذلك .. أنت خرقت السلام النفسي الذي يعيشون فيه منذ سنوات .. أناس متحابون بعواطف ملتهبة قامت الادارة بوضع شخص غريب بينهم أضاع الوئام ولطّخ السلام.

بعد كل ذلك .. ماذا تنتظر !؟ .. من الجيد أنهم لم يرموك في بئر أو يضعوك في فرامة الورق .. أعتقد أن السبب يتعلق بعدم وجود بئر على مقربة من الشركة وعلى أن فرامة الورق لن تتسع لك … قد يكون السيد موظف التنظيفات قد منعهم في اللحظة الأخيرة لكي لا يضطر لتنظيف بقايا عملية التخلص منك.

لكن .. لا داعي للقلق .. هناك وسيلة فعالة جداً للمرور من هذه المرحلة الثقيلة على النفس .. ببساطة .. كن هادئاً ولا تفعل أي شيء يثير الشك .. ساعدهم على نسيان وجودك ودعهم يكتشفونه ببطء وبالتدريج.

هناك من ينصح بأن تكون مرحاً واجتماعياً بافراط لكي تدخل في الجو بسرعة .. وهذه في الحقيقة نصيحة حمقاء.

ستجد من سيتجاوب معك ويبادلك الأحاديث المرحة ليس لأنه وقع في غرامك بل هو يحاول دراستك لا أكثر .. معظم البشر لديهم تصور راسخ على أنهم سياسيون محنكون ولاعبي كرة قدم محترفين ومحللين نفسيين برتبة عرّافين.

والذي سيحدث أن صاحبنا المرح الهمام سيدخل بعدها لكل أقسام الشركة وسيحدثهم عنك بما خرج به من نتائج تحليلاته النفسية .. وستعاني بعدها لوقت طويل من اصلاح الصورة التي زرعها في عقول الموظفين .. الصورة التي لن تكون براقة بكل الأحوال.

لذلك كن هادئاً ودبلوماسياً وتصرف كزهرة حائط .. لا تتحرك ولا تبدي أي موقف حتى بخصوص نتيجة مباراة ما .. لا أريدك أن تكسب عداوة ما من غير ميعاد .. وأجب على أي سؤال بطريقة غير شخصية بالمرة .. أنت تعرف قوالب الاجابة النمطية المليئة حتى منتصفها بكلام لطيف والنصف الآخر بكلام حذر .. أريدك أن تحفظ تلك الإجابات المراوغة .. المراوغة لدرجة غير مستفزة.

ومع الوقت ستدخل في الجو وسيعتبرك الموظفون خلية أصيلة وقد تتطور لتكون أحد الأعضاء الرئيسيين في جسم الشركة .. خذ باعتبارك أن الجسم يحتوي على أعضاء عديدة بينها من لا يتمنى أحد أن يكونه .. هذا يتوقف على سلوكك أولاً.

الآن … أريد أن أخبرك بمبدأ لن أكف عن تذكيرك به طوال الوقت.

لا يوجد صداقات في أماكن العمل.

خذ هذه العبارة واكتبها على ورقة كبيرة وضع بعض الزخارف على حوافها ومن ثم ضعها في إطار وعلقها في كل مكان .. ضعها كنغمة لرنين هاتفك وكصورة لسطح مكتبك.

لا يوجد صداقات في أماكن العمل … هذا هو سابع المستحيلات قد عثرنا عليه أخيراً وعلينا أن نقول بعد ذلك أنه من ثامن المستحيلات.

لا يوجد صداقات في العمل .. وإن خدعوك أو خدعتك الظروف أو تخيلت ذلك في وقت ما.

مكان العمل هو حيّز صناعي بحت وُجد لتحقيق أهداف أصحابه .. بضعة أقسام تضمّ غرفاً تحتوي على مستلزمات جامدة كالطاولات والأوراق ومستلزمات متحركة كالموظفين والزبائن وماشابههم .

هذه أماكن محكومة بالمصالح أولاً وآخراً ولا مكان فيها لأي عواطف حقيقة.

لذلك عليك أن تحمي نفسك من هذا الفخ الذي يقع فيه الكثيرين وأنا كنت من بينهم قبل أن أكفّ عن ذلك.

تستطيع بالطبع أن تتجاهل نصيحتي بحجة أنك ستقضي في مكان العمل أكثر ساعات يومك وأن موظفي الشركة هم عائلتك الثانية وأن الصداقات ضرورية لكي تمر الأيام بسلام وتنتشر المحبة بين المكاتب وترقص الحواسيب طرباً في بحر العواطف والوئام.

تستطيع تجاهلها ولكنك ستكتشف في لحظة ما أنها أوهام في أوهام .. أتكلم تحديداً عن تلك اللحظة التي ستصطدم فيها مصالح أحد أصدقائك في العمل بمصلحتك وبعدها سترى عينيك كل شيء عدا النور .. ستصبح الحكاية مرار طافح كما يقول الكبير

ناهيك عن أن الصداقات في العمل ستعطي رسائل بأنك منتمي لشلّة معينة وهذا أسوء ما قد يحصل لك لأنك قد تجد نفسك في وقت ما داخل ثقب أسود كبير لن تستطيع الافلات منه بسهولة وكرامة لو حدث صراع بين الشلل وأمسكت الشلّة المعادية زمام الأمور.

لذلك يا صديقي حاول التفرقة بين المعاملة الحسنة وبين الصداقة .. كن متوازناً ولطيفاً ولا تكف عن تبادل المرح مع الجميع .. هكذا ستجد نفسك في الغالب بأمان مهما كانت نوعية الظروف القادمة .. وحتى لو ساءت تلك الظروف فسلوكك هو جزء لا يتجزأ من سيرتك الذاتية الغير مكتوبة التي ستصاحبك حتى بعد خروجك من الشركة.

ها قد انتهت قصة توظيفك وأصبحت جزءاً واعداً من الشركة .. واعداً بشتى أنواع الوعود .. أنت على بداية الطريق وصرت تمتلك طاولة وأقلاماً وحاسباً والأهم أنك نلت فرصتك وصار عليك أن تستغلها بذكاء وحكمة.

أستطيع الآن تركك تواجه مصيرك بكل اطمئنان وراحة ضمير وسأنتقل بعدها نحو الحديث الى مواضيع أخرى.

ما زلنا في البداية .. والحكاية مليئة بأحداث وأمور شتى ما بين الكلام الذي يشرح النفس وما بين الخراء.