مرحباً بك يا صديقي …

مشوار الذهاب للعمل حكاية بحد ذاتها وخصوصاً لمن يسكن في حيّ بعيد عن مكان العمل .. الواقع أنها حكايات وليست حكاية واحدة بحيث تتعدد المشاهد من خلال المراحل الماراثونية التي أتنقل من خلالها بدءاً من المشي الى ركوب المترو ثم التروماي وانتهاءاً بالمشي مرة أخرى لحوالي خمسة دقائق وصولاً الى هدفي النهائي.

في البداية كنت أفعل ذلك بمفردي وبعدها صرت أتصادف مع أحد زملاء العمل الذي يركب نفس التروماي ولكن من محطة لاحقة.

كنا نسير صامتين في البداية وبعدها بدء حاجز التعارف يزول ببطء وبدءنا نتبادل بعض الأحاديث .. ومع مرور الأيام بدأت أستغل فترة الخمس دقائق حتى وصولنا لمكان العمل في تمرين كلامي من نوع خاص.

الحقيقة أن طبيعة عملي تتطلب مني ساعات طويلة من التركيز .. والتركيز يحتاج لصمت سواء منك أو ممن حولك .. وقد ساعدت طبيعتي الهادئة أصلاً .. يخيل لي أني سمعت شخرة اسكندراني فاخرة ولكن لأتجاهل ذلك .. أقول أنها ساعدتني على التعود على ساعات الصمت .. ولكني كنت قلق من فكرة الذهاب نحو الصمت المطبق وخصوصاً مع التقدم في العمر.

هكذا خطرت لي فكرة وهي أن أستغل الخمس دقائق تلك في التمرين على اختلاق أكبر عدد ممكن من المواضيع بحيث أخرج من واحدة لأدخل في أخرى بأسرع ما يمكن.

أول شيء اكتشفته بهذا الصدد أن المواضيع الجدّية لا تصلح لهذا التمرين لأن واحداً منها قد يحتاج نهاراً بطوله وليس خمس دقائق يتيمة … هكذا بدأت أميل نحو المواضيع الغريبة العجيبة والعبثية.

عن ماذا كنت أتحدث !؟

للدقة من الصعب جداً تذكرها أو توثيقها ولكنها تدور حول أي شيء وكل شيء.

حكيت مرة عن سائقي السيارات الذين لا يسمحون للعابرين بقطع الطريق إن كان يمين الطريق مفتوحاً لهم .. هؤلاء السائقون العديمي الذوق غالباً ما يلبسون نظارة شمسية سوداء ويتظاهرون بأنهم مستعجلين .. قلت له أنهم لو كان بوسعهم أن يتجهوا نحو الشمال لفعلوا .. فقال لي أنهم متجهين شمالاً بالفعل .. وضحكنا بعدها.

حكيت له اليوم عن تجربتي المجتمعية التي تتضمن الدراسة السلوكية لضاغطي زر فتح باب التروماي .. والحكاية أن لكل باب من أبواب التروماي زرين على اليمين وعلى اليسار يفتح أي واحد منها الباب للخروج منه .. هناك من يضع يده على الزر ليضغطه بمجرد توقف التروماي وكأنها مسألة حياة أو موت .. هناك من يقف أمام الباب وينتظر الواقف في الجهة الثانية لكي يضغط الزر هو من باب الترفع عن هذا الفعل السوقي .. حصل هذا معي أكثر من مرة بطبيعة الحال لدرجة أن التجربة تحولت الى نظرية اجتماعية كاملة في السلوك البشري تجاه أزرار التروماي.

ولأنها نظرية فهي بحاجة الى نقض لها لذلك أخبرته أنه لو كان لدي متسع من الوقت لما ضغطت الزر وتركت الباب مغلقاً حتى يتحرك التروماي وأبقى أنا وذلك المترفع عن ضغط الزر حتى المحطة التالية .. هذا فعل شبيه بما فعله مفيد الوحش عندما جذب إليه من ابتزه لعجزه وترك كرسيه المتحرك يهوي باتجاه البحر ليغرقا سوية.

يتسائل عن مدى أهمية إثبات نقض النظرية فأكدت له أن الأمر هام جداً مثل كيس الدواء الذي يعطيك إياه الصيدلي والذي يتضمن الدواء المطلوب ومعه كومة من الأدوية التي تعالج لك أعراضه الجانبية.

وهكذا نتنقل من موضوع لموضوع آخر .. مواضيع لا ترابط بينهم بالمرة .. ومع قليل من ادارة الوقت تتمدد الخمس دقائق معنوياً لتعطي زمناً أكثر.

وأنا أزعم أن صاحب الفضل بنجاح التمرين هو زميل العمل الذي إما يحاول أن يسايرني أو يظن في عقلي الظنون .. وبكل الأحوال المكسب مشترك بابتعادنا لبضع دقائق عن روتين اليوم.