عام 1996 .. وجدت نفسي في مدرسة وسط المدينة تبعد عن المنزل لمسافة لا بأس بها، المدرسة عبارة عن مبنى قديم جداً كان مستشفى ملحقاً بكنيسة ثم أصبح مشفى حكومياً مستقلاً عنها ثم تحول بقدرة قادر الى مدرسة حكومية، توزيع الغرف غير متناسب مع كونه مدرسة وكنت أشعر عند تجولي في أرجاءه أنني في متاهة خصوصاً مع كل تلك الممرات التي قد لا تلحظها لو لم تدقق النظر جيداً .. الممرات التي تحوي مصاعد لإنزال الطعام الى تحت .. مرة صعدت الى الدور العلوي لأكتشف وجود تابوت خشبي ملقى بإهمال في إحدى الأركان، يبدو أنهم نسوه وهم يفرغون المستشفى من المعدات والمرضى ولا بد أنه ظل عُهدة بذمة مدير المدرسة 🙂
من طرف آخر كان هناك باب بدروم يقع في الطابق الأول أسفل الدرج، رآه مرة بعض الطلاب مفتوحاً فتشجعوا واقتربوا قليلاً وشاهدوا درجاً طويلاً ينتهي بساحة واسعة تنتهي بدورها بممر طويل مظلم، نزلوا الدرج وتوغلوا قليلاً في الممر ثم شعروا بالخوف وتراجعوا بسرعة، قالوا أنهم شاهدوا ما يشبه شواهد قبور أثرية متناثرة هناك، هناك من قال أن هذا الممر ينتهي داخل قلعة حلب، هذه الممرات موجودة فعلاً في أماكن متفرقة في المدينة القديمة، أخبرني أحد الأشخاص أن أقرباء له كانوا يعيشون في بيت عربي قديم يحتوي باب خشبياً سميكاً مغلقاً بإحكام وكان أبوه يحذره من محاولة فتحه ويؤكد له أن خلفه ممراً ينتهي عند القلعة.
مدرسة جديدة بالنسبة لي ومدرسون جدد، ومن بينهم كانت مدرسة اللغة الإنجليزية، كانت من ذلك النوع الذي يعتني بصحته ولياقته بحيث تبدو لغير المدقّق أصغر من عمرها الحقيقي بدزينة من السنوات.
وكان لأول درس لها في فصلنا قصة طريفة …..
عندما دخلت لفصلنا كان الفصل الذي بجانبنا من دون مدرّس وكان هناك أصوات ضجيج عال تصدر منه فذهبت المدرّسة الى هناك لكي توقف هذا الضجيج فبدأ بعض الطلاب في فصلنا بإصدار أصوات عالية، عادت لنا فصمتوا وعاد طلاب الفصل المجاور لضجيجهم السابق، نحن نتكلم هنا كما ترى عن حلقة لا نهائية وهي كانت أذكى من أن تقع بها، لذلك بقيت في فصلنا وأشارت بهدوء الى بضعة طلاب تعرف من خبرتها ومن وجوههم أنهم عُتاة الصف ثم أرسلت في طلب مدرّس العسكرية .. كان هناك واحد على الأقل في المدارس الإعدادية والثانوية في عموم سوريا .. عندما حضر أستاذ العسكرية طلبت منهم بهدوء أن يقص الشعر الذي يقع على مقدمة رؤوسهم، كانت تلك لحظات مرعبة بالنسبة لهم، كان هذا يعني الإنقطاع عن التردد فوق سور مدرسة البنات لشهرين على الأقل بانتظار أن تعود تقاسيم جمالهم لسابق عهدها، هكذا كان هناك كثير من الرجاء والاستعطاف حتى أصدرت المدرّسة عفواً عاماً على الجميع، وعاد مدرّس العسكرية بمقصه الخائب الأمل.
كان هذا درساً من العيار الثقيل وضربة استباقية محكمة بحيث لم يجرؤ أحد في عموم المدرسة على اللعب بذيله أمامها، هم معذورون طبعاً لأن هناك مقصاً في الموضوع كما رأيتم.
وصار الطلاب لطيفين جداً معها بعد أن عرفوا أن وراء شعرها الأشقر وعينيها الزرقاوتان ما هو كفيل بأن يريك أسوء كوابيسك وقد تحققت، لكن وبرغم ما جرى فيبدو أن جعبة المدرّسة من الدعابات لم ينفذ بعد لذلك سمعناها مرة تعرض علينا أن نقوم بزيارة الى المصحة العقلية لنشاهد المرضى هناك !!؟… كان هذا مغرياً حقاً والويل للجبان الذي سيرفض الذهاب، لنقل أنه كان فخاً محكماً بالنسبة لمجموعة من المراهقين الذين لا يبالون أن تدهسهم شاحنة ما دام هذا سيثبت للعالم أنهم شجعان ولا يهابون المخاطر.
ولم نتأكد من أن القصة ليست مجرد مزاح إلا عندما جاءت الحافلة لتقلنا، تبادلنا النظرات في صمت، هل من الممكن أن تتركنا هناك وتعود بمفردها !!؟، لا أحد يستطيع استبعاد ذلك وسيكون إثبات أننا لسنا من نزلاء المصحة عسير نوعاً.
بعد أقل من ساعة كنا قد وصلنا، مجموعة مباني قديمة متباعدة محاطة بسور، كان أحد المشرفين بانتظارنا وسار بنا حتى وصلنا الى المبنى الذي يحتوي الحالات الغير خطرة أو هكذا قيل لنا، هناك مرضى يتنزهون في ساحة بجانب المبنى، كانت الصورة النمطية للمريض العقلي باعتباره وحشاً يتطاير الزبد من فمه هي المسيطرة على عقولنا بطبيعة الحال لذلك تفاجئنا من كونهم يبدون طبيعيين جداً، كان هناك شخص عرفنا من لهجته أنه فلسطيني جلس بجانبنا وبدأ يغني أغانٍ غير معروفة عن فلسطين وعن المقاتلين الأوائل هناك، تحلقنا حوله لدقائق ثم أصابنا الملل وبدأنا بالابتعاد، بدأ ينادينا بعصبية لنعود له، هنا بدأنا نرى جانبه الغير طبيعي والحمد لله أن المشرف كان موجوداً.
كان هناك مرضى محتجزين ضمن غرف قديمة يجلسون وراء شبابيك مدعمة بقضبان حديدية، جلس بعضنا على الحافة المقابلة وبدأوا بتبادل الأحاديث معهم واكتشفنا بعد سؤال المشرف أنهم من النوع الخطر وأن أغلبهم جاءوا الى هنا بعد ارتكابهم لجرائم قتل وحشية ودفعنا هذا الى الإبتعاد عنهم مباشرة.
كانت هناك أصوات صراخ مرعب قادم من أحد المباني، أخبرنا المشرف أنه جناح المرضى الخطرين جداً وأن السفاحين الذين رأيناهم هم مجرد أطفال أبرياء بالنسبة لهم، كانت المدرّسة واقفة طوال الوقت تتأمل وجوهنا بانتباه وبابتسامة ساخرة خفيفة وعندما سمعت ما قاله المشرف أخبرته برغبتها الذهاب الى جناح النساء، فتنحنح المشرف وأخبرها أن أغلبهم مضى عليهم سنوات من دون أن يروا رجالاً ولا يستطيع تخيل ما قد يحدث لو اقتربنا مجرد الإقتراب منهم.
بالنسبة لي لم أكن مرتاحاً مما شاهدته بالمرة لأن وراء كل شخص منهم قصة مخيفة غالباً ولا تخلوا من حزن ولكني لاحظت بشيء من السخرية أن أغلب الطلاب الذين كانوا يدعون القوة قد امتلأت وجوههم بالرعب وباللون الأصفر الفاقع 😆 .. لا مكان للإدعاء هنا.
عدنا أدراجنا في النهاية نحو الحافلة، وقد كان أغلبنا يغمغم بكلمات غير مفهومة عن كونها أول مرة وآخر مرة .. لا أدري من أين أتوا بكل هذه الثقة!؟.
عموماً من لم يخف من المقص خاف من المصحة 😉