هناك أشياء الصغيرة تمر في حياتك بهدوء وتُغيرك الى الأبد.
في صغري كنت أقف أمام شاشة التلفاز حين يبدأ الإرسال .. في الثمانينات كانت هناك قناتان فقط في سوريا إحداها كان يبدأ بثها عند السادسة مساءً وتستمر لست ساعات، القناة الرئيسية كانت تبدأ في الظهيرة بآيات من القرآن من تلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله، صوت رخيم جميل كان من بدايات علاقتي السمعية بديني كمسلم، وبعدها تبدأ فقرة عبارة عن كاميرا موضوعة على عربة ما تسير باستمرار عبر طرق خضراء مع صوت موسيقى من حفلات لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ غالباً، كنت أقف أمام التلفاز مباشرة وأصغي بانتباه الى إيقاعات الموسيقى، وقد كوّن هذا فيما بعد ذوقي الخاص في الاستماع الى موسيقى الحفلات قبل صوت المطرب نفسه وبالإصغاء الى فرق العزف التي أصبحت تتوفر الآن على يوتيوب، علاقتي بما يسمونه أنماطاً جديدة للموسيقى انتهت منذ التسعينات.
خلال أيام الأعياد كان التلفاز يعرض مسرحيات معينة كنوع من كسر الروتين وإشعار الناس أنها أيام مختلفة، مسرحيات ريا وسكينة وسكّ على بناتك وشاهد ما شافش حاجة وغُربَة وغيرها، كانت تُعرض دائماً في كل عيد لذلك كنا نضطر لمشاهدتها مراراً وتكراراً، وهكذا وعلى مر الزمن صار المسرح يستهويني لدرجة أني كنت أحفظ حوار مقاطع كاملة من عدة مسرحيات، العروض الحية أمام الجمهور وليس أمام الكاميرات التي تُتيح إعادة التصوير، هنا تظهر قوة الممثل الحقيقية، والى الآن أفضل المسرح على السينما ولو وقفت أمام مدخل مسرح ومدخل صالة سينما سأختار المدخل الأول بلا تردد.
وفي تلك الأيام وفي كل الأيام كانت أماكن النزهات والتسلية قليلة جداً لذلك كانت أغلب الزيارات تتم عند بيتا جدي مع زيارات متباعدة لباقي الأقارب، لم يكن من ثقافة عائلتنا أن يلعب أحد أفرادها في الشارع، كل هذا ساعد في تقوية ذلك الإحساس المتفرد الذي تمتلأ به نفسي في كل مرة أُمسك كتاباً وأفتحه لأتأمل صفحاته في شغف وخصوصاً لو كان مجلة أطفال تمتلأ صفحاتها برسوم مبهجة كما مجلة العربي الصغير ومجلة ماجد ومجلة أسامة، وصار بعدها الكتاب هو مركز تسليتي ورفيقي المخلص حتى الآن، تلك السنوات الطويلة التي أدت أن أجلس الآن وأكتب لك ما أكتبه.
ولما كنت أكبر أخوتي والفارق بيني وبين الأخ التالي هو ست سنوات فكان من الطبيعي أن أقضي المهام التي أُكلف بها بمفردي، الذهاب لشراء لوازم البيت والى بيوت أقاربي لإيصال الرسائل الشفهية – ذهبت مرة الى بيت جدي لأبلغهم بأن أحد أولاد عم أمي قد توفى رحمه الله – وطبعاً لزيارة بيتا جدي التي كان موعد بدايتها وانتهائها صارماً جداً .. كل هذا أدى لأن أحب المشي بمفردي والى أن تصبح مواعيدي دقيقة جداً قدر المستطاع.
أشياء وتفاصيل صغيرة قد لا نلتفت إليها غالباً ولكنها تُكوّن في ثقة وبطأ ما نحن عليه .