الشتاء له ملامحه وطقوسه في الشوارع القديمة وخصوصاً في الشارع التي يقع فيه ذلك المبنى في باب الحديد.
رائحة المازوت العالقة عبر الهواء في الصباح الباكر .. تلك الرائحة المقبضة التي يستقبل بها طلاب المدارس يومهم والممتزجة برائحة عوادم المدافئ والسيارات.
الطلاب السائرين بخطوات نائمة نحو أبواب المدارس السوداء والباعة المتجولون الواقفين قربها بعرباتهم الصغيرة التي تتصاعد منها أبخرة السحلب ورائحة الكعك الطازج.
الليل قليل الاضاءة والشوارع القارصة نادرة العربات والمارة والهدوء المحبب جراء النوافذ المغلقة والشوارع الخالية من لاعبي كرة القدم الأشقياء الصارخين والشاتمين.
أما ما يجري داخل البيوت فأمر آخر يتناقض مع الهدوء الخارجي السائد … الهدوء المنكسر بأصوات الصحون والملاعق التي تخبرك بأن العشاء قد اقترب حضوره على المائدة .. نغمات الدفء المكتوم المتلاحق والمنبعث من داخل المدفئة والأحاديث المتفرقة هنا وهناك عما جرى خلال اليوم وعما سيجري لاحقاً وهل ضيوف السهرة سيأتون حقاً أم أن البرد يزفر متوعداً من يتجرأ على الخروج ومواجهته .. قد تكون هناك أسباب أخرى البرد بريء منها.
البيوت عامرة بالأحداث وتخفي ألف احتمال واحتمال ..
ولكن .. هل تسمع أصوات تلك الخطوات النسائية على درج المبنى !؟؟ ..
تلك الظلال هناك التي تقترب من أحد البيوت والتي لا تكف عن الحديث والضحكات الخافتة …
آآآآآه .. هذا بيت عزيزة.
يبدو أن الحكاية قد بدأت فعلاً.
* * *
عبرت عزيزة من باب المطبخ وسارت ببطء نحو ذلك المقعد الصغير القابع جانب المدفئة وجلست عليه بتثاقل.
الدفء الثقيل المفعم ببخار المهلبية القادم من المطبخ .. وفايزة أحمد على التلفاز تطلب من حبيبها المتغرب أن يقترب منها أكثر.
نظرت نحو الساعة الموضوعة ضمن الخزانة .. السابعة وخمس دقائق .. لقد تأخروا كعادتهم .. أحياناً تعتقد أن الزمن يسير عندهم بشكل مغاير .. لو كان الأمر متعلق بربع أو نصف ساعة لكان الأمر اعتيادياً بحكم العادة ..
هناك أحمق ما أخبرهم بأنهم سيفقدون قيمتهم في الحياة لو أنهم تجرؤا وأتوا على موعدهم ..
ساعة كاملة قد انقضت وبدأت ساعة أخرى بالتآكل .. وهي تنتظر وكأنها خلقت لذلك.
زمّت شفتيها بغضب وهي تتابع التلفاز بلا أيّ تركيز حقيقي.
دق جرس الهاتف في تلك اللحظة فقامت والتقطت سماعته وهي تتسائل عن المتصل:
- إنه أنا نظيرة أختك .. اسمعي .. ستأتي منى وسوزان وسمير لعندك بعد قليل .. تأخرنا كالعادة .. لكن هناك سبب هذه المرة .. كان من المفترض أن يأتي دوري عند الكوافيرة منذ أكثر من ساعة ولكن اكتشفت أن الغبية قد ذهبت لقص شعر عروس في صالة العرس نفسها .. قالوا لي هناك أنها ستأتي بعد ساعتين .. لذلك أرسلت لك الأولاد وسآتي بمجرد أن أنتهي .. لن أستطيع السفر من دون أن أقص شعري .. الأسعار في بلغاريا غالية وأنا لن أثق بأن أسلم شعري لأي واحدة هناك طبعاً.
ثم سمعتها تخاطب أولادها بلهجة متوعدة:
- تعرفون ماذا سأفعل بكم لو لم تجلسوا عاقلين عند خالتكم.
وعادت لتقرب الهاتف من فمها لتقول لعزيزة :
- لن أتأخر وسآتي لعندك مباشرة .. تريدين شيئاً !؟ .. سلام.
وضعت عزيزة سماعة الهاتف وعادت للجلوس على المقعد بجانب المدفئة وهي تنفخ في غيظ .. بدل أن تأتي لتقضي وقتاً معها قبل أن تسافر ها هي تتصرف وكأن بيتها حضانة أو دار رعاية .. والى أين !!؟ .. لتقص شعرها .. انتظرت الحمقاء حتى آخر يوم لها وذهبت للكوافيرة.
نادت ابنتها الكبرى وطلبت منها أن تحضر المشط من غرفة النوم وتأتي لتمشّط لها شعرها … جاءت البنت ومعها المشط ووقفت وراء المقعد وبدأت بتمريره بهدوء من خلال خصلات شعر أمها التي جلست عابسة وهي تهمهم بكلمات غير مفهومة.
دقائق وبدأت تُسمع أصوات خطوات متلاحقة على الدرج آتية من باب الخروج مع أصوات همسات وضحكات أنثوية خافتة ..
آه ها هم ذا .. وكعادتهم لا يستطيعون الوصول الى باب المنزل من دون أن يُشعروا الدنيا كلها بأنهم قد أتوا.
دُق الباب عدّة دقات فاتجهت البنت نحو الباب وفتحته بينما كانت عزيزة تحاول رسم ابتسامة طبيعية على وجهها .. دخلت الفتاتين مع أخوهما الصغير وبدأ السلام التقليدي مع القبلات السريعة.
مدّت الابنة الصغرى لعزيزة رأسها من باب الغرفة في آخر الممر وابتسمت لما رأت الضيوف .. بالنسبة للفتاتين كانت ابنتيّ خالتهما أشبه بفايس بوك وتويتر بالنسبة لهما في زمن لم يظهر الانترنت فيه بعد .. خصوصاً أن الكبرى كانت مخطوبة أيضاً .. أي أنها بالنسبة لهما كائن غامض من تلك الكائنات التي ترتدي خاتماً بيدها اليمنى وتتلقى مكالمات وزيارات متباعدة من كائن غامض آخر يسمى الخطيب.
ستبقى الفتاتان معهم لشهر كامل حتى تعود أمهم من السفر.
وسرعان ما غابت الفتيات الأربع داخل إحدى الغرف وبقي الصبي الذي بدأ يزوم كالقطط وهو يسير باستمرار على حافة السجادة .
كانت عزيزة تراقبه بعينان لا تريان وهي تفكر بسفر أختها .. يالها من حمقاء هي وزوجها الذي لم يجد مكاناً ليفتتح تجارة به سوى بلغاريا.
لماذا لم يذهب الى السعودية كباقي خلق الله .. تمتمت تتسائل بحنق .. على الأقل كان سيحج هناك ويزور الروضة الشريفة ومن يدري فقد يتاح لها أيضاً الذهاب الى هناك لتحج ولتزورهم أيضاً.
كيف سيبارك الله تجارته وهو هناك في بلغاريا !؟ وماذا سترى هناك لو ذهبت هي وزوجها لتزورهم سوى تماثيل الأطفال الذين يتبولون على أحواض الماء !!؟
بدأ الصبي باصدار أصوات أعلى وهو يحاول اخراج شيء ما من أسفل الكنبة فصاحت بابنتيها لكي تأتي إحداهن لتأخذه فجاءت الصغرى وأخذته وأغلقت الباب.
فرغت فايزة أحمد من أغنيتها فأدارت عزيزة التلفاز نحو القناة الثانية وظهرت مذيعة ثقيلة اللسان تبتسم وتبشر المشاهدين أن حلقة جديدة من مسلسل رأفت الهجان ستبدأ حالاً.
عادت عزيزة لشرودها وهي تهز رأسها على وقع النغمات الحماسية لشارة المسلسل .. نعم كانت هي السبب في كل هذه الازعاجات التي تنالها باستمرار .. كانت لا تعرف كيف تقول .. لا .. لذلك كان من السهل أن يستغلها كل من هب ودب في العائلة .. يقولون عنها دائماً أنها حنونة وقدّ المسؤولية .. من أمها التي تركت لها أخوتها الصغار لتربيهم وأخذت تدور من زيارة لزيارة طوال النهار الى أولاد أخوتها أنفسهم .. كانت الحل السهل لأيّ منهم عندما يقرر الذهاب لزيارة أو لسفر وسرعان ما تكتشف أن البيت مليء بأطفالهم الباكين ليعودوا بعدها ويأخذونهم في آخر الليل من دون أن يجاملونها ولو بالجلوس عشر دقائق … إنه دار حضانة فعلاً وليس بيتاً طبيعياً ولولا صبر زوجها لكانت عادت الى بيت أهلها وسيكونون غالباً سعداء بذلك لأنها ستتفرغ كلياً لهم ولأطفالهم.
وفوق هذا وكله .. تنهدت وهي تغليّ بحنق
فوق هذا وكله ها هي أختها ستسافر وتترك لها ابنتها المخطوبة لشهر كامل لكي تتحمل هي مسؤوليتها .. شهر كامل ستلعب دور الحماية بكل الازعاجات وحرق الدم .. وليس بالمستبعد أن يأتي يوم تُحضر فيه مقصوفة الرقبة الصغيرة أولادها أيضاً لكي تتركهم عند خالتها.
بدأ المقعد يصدر صريراً متواصلاً من جراء اهتزاز قدميها .. بينما تعالت أصوات الصبي وهو يركض نحوها حاملاً ألعابه وهو يصيح بأن الفتيات يسكتونه ولا يتركونه يلعب ..
- اجلس يا ولد على منتصف السجادة والعب هناك
هز سمير رأسه بعناد وقال :
- لن ألعب وأريد أمي الآن.
- ستأتي أمك بعد قليل .. العب الآن حتى تأتي
أخذ يبكي وهو يردد بأنه يريد أمه .. تجاهلته ببداية الأمر فأخذ يصيح بصوت أعلى وهو يخبط بقدميه على الأرض وبيديه على المقاعد .. صاحت به بأن يتوقف فلم يرد وتابع صياحه.
هنا فقدت عزيزة صبرها .. لكي نكون منصفين لا بد أن نتحدث عن صبر أكبر وأطول بكثير من ليلة واحدة ومن عناد طفل صغير يريد أمه .. لذلك قامت وأمسكت الولد وانهالت عليه لطماً وبدأ يصيح بصوت أعلى وهي تضربه بشدة أكثر حتى جاءت الفتيات وسحبوه من بين يديها.
عادت عزيزة لتجلس على مقعدها وهي ترتجف من الغضب .. بدأ الولد ينهنه بصوت خافت ثم سرعان ما استغرق في النوم.
وجاءت أمه بعد نصف ساعة .. وحكت لها الفتيات وهنّ يضحكن ما جرى وأخذت تضحك معهم ضحكة أشبه بالزمجرة وهي تعاتب أختها من دون أن تجرأ على النظر اليها.
دق جرس الهاتف بعدها دقات عدة دقات طويلة فأسرعت نظيرة لتلتقط السمّاعة وهي تقول بلهفة :
- لا بد أنه زوجي صلاح
أخذت تتكلم بسرعة ثم صمتت وهي تسمع في همّ ثم أغلقت السماعة وقالت :
- ألغيت رحلتي .. هناك قرار من الحكومة ببلغاريا بمنع استيراد الأحذية من عندنا .. التجّار أشبعوها غشاً لذلك صدر القرار منذ قليل .. سيعود صلاح مع أول طيارة ستأتي الى هنا.
حاولت عزيزة منع ابتسامة كبيرة نجحت في التسلسل الى وجهها دون جدوى .. ثم وقفت وقالت بتحد:
- سأذهب الاسبوع القادم لأداء العمرة مع عبد الحميد وسأضع بناتي عندك .. وياويل من سيتعرض لهم بأي كلمة.
لا توجد تعليقات