حكاية مبنى في باب الحديد

حكاية مبنى في باب الحديد – مظاهرة !!!

هل توقف هطول المطر !؟

لنلقي نظرة عبر منور الطابق .. المنور الأشبه بنافذة ضخمة يعبر عبرها الضوء والهواء نحو الطابق وتعبر الروائح غادية رائحة.

آآآه .. لقد توقف حقاً .. تعال إذن وقف بجانبي .. هل تشم رائحة المطر الطازج ؟

الروائح الموسمية المتعلقة بالطقس تجذبني حقاً .. روائح أول هطول مطر في الخريف وروائح الزهور المتفتحة ربيعاً وأنسام الصيف المنعشة المحملة بتلك الروائح الغامضة التي تأتي من تراب الأرض .. وروائح دخان المدافئ في الشتاء.

هذه أشياء من السهل التنبؤ بها وانتظارها وهي لا تتأخر عادة .. أشياء من السهل التنبؤ بموعدها.

هناك أيضاً أشياء من الصعب التنبؤ بوقت حدوثها .. سلوك الشعب مثلاً .. سكونه وثوراته.

الى أين أنت ذاهب !؟ .. تعال وعد لتقف بجانبي ولا تخف .. لا أحد سيسمعنا هنا .. لم ينصرف الرجال بعد من أشغالهم ولا الأطفال من مدارسهم .. الطقس بارد والشرفات مغلقة .. وأنا أؤكد لك أن مُخبر المبنى غير موجود الآن.

تعال ولا تخف .. وهل سيفلح الخوف والابتعاد في اكتساب السلامة !؟

هل نسيت ما حدث لصاحب محل الأحذية الذي أرسل سلامات أحذيته الى القائد المناضل بمناسبة استمراره في الحكم بعد استفتاء لم يتواجد فيه أحد سواه.

كان يريد تهنئته واثبات ولاءه فقط .. ولكن يبدو أن ساعة غفلة ما قد دفعته لارتكاب هذه الحماقة وحشر محتوياته محله من الأحذية في التهنئة .. قد تكون نصيحة من أحمق أو كاره ما .. الخلاصة أنهم أخذوه هو ومحتويات محله والمحل نفسه في الغالب.

هل نفعته التهنئة !؟ .. بالطبع لا .. وحتى لو لم يفعل ذلك فله يوم سيلحقه فيه أذى ما .. هذا أمر مؤكد .. لن يكون في مأمن من يعيش مع الضباع.

عن ماذا كنا نتكلم !؟ .. آآآه .. عن التنبؤ بسلوك الشعب .. طيب .. هل ترى كل هذا الخوف داخلنا وحولنا ؟ .. هذه قشرة لا أكثر .. قشرة خادعة .. يظنونها أنها غدت سميكة بمرور الوقت وغير قابلة للخدش ولكنها تفاجئهم في لحظة ما بأنها لم تعد موجودة وأن أسوء مخاوفهم قد بدأ في الحدوث.

ماذا !؟ .. أتضحك من كلامي .. وهل تظن أنهم لا يخافون أيضاً !؟ .. هم يخافون خوفاً أكبر من خوفك ولكنهم يعرفون كيف يخبئونه جيداً .. يحجبون صوته بطقطقة عظام المعتقلين ويغطونه بدماءهم.

ولكنهم يعرفون جيداً أنها مسألة وقت لا أكثر.

هل تسمع ذلك الصوت القادم من بعيد .. صوت هتافات هذا !؟

يبدو أن الحكاية قد بدأت فعلاً.

* * *

هبّت لفحة هواء باردة فأحكم مصطفى اغلاق معطفه وخطا بسرعة خارجاً من الزقاق الضيق عابراً نحو الطرف الآخر من الشارع .

توقف بعدها والتفت نحو الزقاق مرة أخرى .. أصوات الباعة المتجولين لا تكف عن التردد من خلفه آتية من السوق الشعبي في الطرف الآخر من الزقاق.

عدّ بطرف عينه أكياس المشتريات ليتأكد أنه لم ينس شيئاً منها .. سيعاتبه والده بحدّة لو فعل ذلك لأن هذا يعني أنه سيعود الى المنزل ومعه بقية الأكياس هذا إن أتى بها من الأساس.

كان يقول لوالدته أنه لم يربي كل هذا العدد من الشباب لكي يراه رجال الحارة حاملاً أغراض البيت بنفسه .. الحقيقة أنه كان يكرر هذا الجملة في كل مناسبة ممكنة وبتراكيب لغوية مختلفة تبعاً للموقف ومع أخذ الاعتبار لدرجة غضبه.

معه حق .. قالها مصطفى بصوت مسموع .. ولكن كما يقولون : جلّ من لا يسهى .. والنسيان وارد بكل الأحوال.

لفحات باردة أخرى .. زاد من سرعة خطواته محاولاً قطع المسافة المتبقية نحو دوار باب الحديد بأقصى سرعة ممكنة.

شعر بضيق مجهول السبب في صدره .. هناك شيء ما غير سار قد حصل وقد نسي ما هو و … آآآآه لقد تذكر .. حبات الجوز التي أكلها في الزقاق الضيق وقد أسند ظهره على حائط الدكان … لمحه والده وبدأ بعدها بتعنيفه والصراخ بوجهه … وما المشكلة في أكل بعض حبات الجوز بعد ساعات عمل طويلة !؟ .. والده كان يعدّ ذلك قلّة قيمة .. الأكل في الشارع مثل القطط وغيرها .. وكان هو يريد بعض التسلية والهواء النظيف لا أكثر.

ماذا كان سيحصل لو أجلّ تأنيبه للبيت أو لداخل الدكان على الأقل !؟ .. وهل الصراخ في وجهه وتلك العبارات التي قالها ستعطيه قيمة ما بين الناس !؟

نفخ في ضيق وهو يجول ببصره في أنحاء الدوار .. الشارع الذي بدا له موحشاً قليل المارة مع أن ضوء النهار لم يمضي بعد.

الشارع المزدحم عادة هادئ الآن هدوء المقابر !؟ .. عجيب .. عجيب حقاً.

الحقيقة أنه كان يعرف السبب ولكن ذلك لم يساعده على ابتلاع هذا المشهد الذي بدا له غير مألوفاً بالمرة.

تلك الأقاويل التي بدأت تنتشر بين الناس بأصوات هامسة .. الخوف الذي يجعل الأصوات خافتة .. الثورة ضد الحكومة .. كلمات يسمعها من خلال سهرات أبوه وأعمامه من وراء الباب المغلق .. ومن خلال أحاديث جدته وأمه المليئة بالكلمات المضطربة.

الثورة ضد الحكومة …

أصوات الرصاص الكثيف التي سمعها وتجاهلها الجميع منذ أسابيع في أول أيام العيد وقيل بعدها أن ارهابيين هاجموا الجيش في حيّ المشارقة والجيش قام بقتلهم .. كان من بين القتلى عمّة فؤاد وابنها الرضيع .. كانت تزور قبر أمها .. هل هم ارهابيون أيضاً !!؟

كان مصطفى قد وصل لبداية الشارع وأخذ يمشي على مهل .. الهواء قد غيّر اتجاهه هنا وأصبح أكثر لطفاً .. الطاحونة القديمة بجنزيرها الضخم الذي يجعل امكانية فتحها شبه متعذرة ولكن ماذا عن تلك الأقاويل عن ….

هنا سمع ذلك الصوت العالي الصادر من خلفه .. وعندما التفت رآهم.

عشرات من الرجال من مختلف الأعمار يسيرون سوية ويهتفون ضد الحكومة.

هذه مظاهرة … مظاهرة هنا في باب الحديد !!؟

تجمد وهو يرمق المشهد غير مصدق لما يراه.

الأمر أكبر من مجرد بعض الأقاويل.

هذه مظاهرة.

كانت المظاهرة قد سبقته ببضعة أمتار وبدأ أفرادها ينتشرون عرضياً حتى سدوا الطريق تقريباً وهمّ ما يزالون يمشون باصرار نحو آخر الشارع.

هنا تذكر مصطفى في ذعر ما يوجد آخر الشارع.

دورية الجيش التي استقرت هناك عند زاويته منذ البارحة.

الرصاص الذي سمعه منذ أسابيع .. لكن أولئك كانوا ارهابيين وهؤلاء غير مسلحون بالمرة .. مجرد أناس عاديين يهتفون ضد الحكومة.

كانت نهاية الشارع قد بدأت بالظهور ومعها عناصر الجيش الذين يقفون هناك عند الناصية وهم ينظرون للمظاهرة في صمت.

حان وقت الهرب … مدخل المبنى على بعد عدة أمتار .. ولكن كيف والزحام يشكل عائقاً كبيراً !؟

سيسرع نحو منتصف الشارع حيث الأعداد قليلة وسيلتف بعدها مسرعاً نحو المبنى.

ركض بسرعة وهو يلهث وهمّ بالانعطاف يميناً نحو المبنى .. كان هذا عندما بدأ الرصاص بالتساقط نحوهم.

طنين الأذنين المؤلم والزمن الذي توقف .. الرجال الراكضين بذعر نحوه وذلك الذي ارتطم به وأسقطه أرضاً.

هل كان هذا من دواعي حظه ؟ .. ربما ولكن الرجلان اللذان سقطا فوقه كانا ثقيلان حقاً.

أخذ يتخبط كالمجنون محاولاً النهوض من جديد .. شيء لزج غريب يملأ ثيابه .. هذه دماء كثيرة ..

هل هو دمه !؟ .. هل أصيب ؟

توقف طنين أذنيه فجأة وكان قد نجح في التملص من الرجلين الغارقين بدمائهم … رجل آخر يسقط .. كان قد وصل الى باب المبنى وبدأ يصعد الدرج محاذراً أن تطأه أقدام الهاربين مثله من المظاهرة التي تحولت لمجزرة.

الهاربين الغير الساكنين في المبنى أصلاً.

أين سيذهبون إذن !؟

الواقع أن الاجابة كانت سريعة .. بدأت تفتح أبواب البيوت في الطوابق الأولى والرجال دخلوا بعدها مسرعين ومرقوا نحو النوافذ المفتوحة ومنها للشوارع الخلفية بينما اختبأت النساء وراء أبواب المطابخ الموصدة.

دق مصطفى باب البيت بأيدي تتحرك بالكاد وعندما فتح تحرك خطوتين ثم سقط داخل المنزل بلا حراك …

ليلة ليلاء كانت ..

جيش الحكومة ملأ الشارع والمباني وحملات التفتيش لا تنقطع.

لكن المياه الباردة غسلت الدماء العالقة على جسد مصطفى وأنقذته من خطر الاعتقال وأعادت له جزءاً من وعيه .. بالضبط ما يكفي لكي يقتنع الضابط أنه مصاب بحمى شديدة ولم يقمّ من فراشه منذ أسبوع.

بقي بعدها مصطفى صامتاً لأيام عديدة .. أخذوه نحو ذلك الشيخ الذي قرأ له وهو يمسح جبينه بشرود.

وبعد أيام أخرى كانت الحياة قد بدأت .. بالنسبة له .. تعود لطبيعتها.

أمام مدخل المبنى وعلى زفت الطريق كنت ترى بعض البقع الداكنة معروفة السبب.

قالت الحكومة إن بعض الارهابيين قد هاجموا نقطة الجيش التي كانت مهمتها حفظ الأمن والأمان وتعامل معهم أفرادها وأراحوا البلد من شرهم.

وأفاق الناس في اليوم التالي على عبارات مكتوبة بخط كبير فوق بعض المحلات على دوار باب الحديد .. عبارات تشتم فصيلاً سياسياً وكأن القضية قضية صراع على السلطة لا أكثر.

أما مصطفى فقد نسي ما جرى .. هذا ما كان يبدو تحديداً .. تزوج بعد سنوات وبدأ البيت يمتلأ بالأطفال وكبر الأطفال ولم يعودوا أطفالاً ولم يعد شعر مصطفى خالياً من الشيب.

وعلى فترات متباعدة ولمن يثق بهم وبتفكيرهم كان يتحدث عن ما جرى في ذلك اليوم .. يتحدث بتفاصيل تؤكد أنه لم ينسى شيئاً قط .. عن تلك المجزرة المنسية التي لم يتحدث عنها أحد كالكثير من الحوادث التي جرت وقتها ولا تستطيع لوم أحد لأن الحوادث الكبيرة نفسها لم تكن تملك أدلة كافية سوى شهود العيان .. لا صور ولا تسجيلات كافية.

أما تلك العبارات المكتوبة على دوار باب الحديد فقد أزيلت بعد نحو ثلاثين سنة بعد أن ظنوا أنه لم يعد هناك حاجة لها وأن القشرة صارت سميكة وغير قابلة للاختراق .. لكن الذي حدث أن ثورة أخرى أدهى وأمرّ اندلعت بعدها بسنة.

ألم أقل لك أن هناك أشياءً من الصعب التنبؤ بوقت حدوثها .. سكون وثورات الشعب أحدها.

2 Comments

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *