المصطبة

حين حُمل أستاذ التاريخ على الأكتاف

الصورة من تأليفي بواسطة Adobe Firefly

عام 1996

لم تكن الثورة السورية رد الفعل الوحيد من السوريين ضد ديكتاتورية ووحشية النظام السوري خلال السنوات التي تلت الثمانينات.

صحيح أنها الأضخم من ناحية الحجم والتأثير ولكن حوادث عديدة جرت قبلها كانت تنذر بحدوث شيء ما في المستقبل.

حوادث قليلة التأثير وضيقة المساحة وشهودها قليلون ولكن أحداثها كانت خارجة عن المألوف وكان من الممكن أن ينتبه أزلام النظام لولا أنهم كانوا مطمئنين في ذلك الوقت بأن البلد أصبحت مزرعة خالصة لسيدهم وعائلته من بعده.

من بين تلك الحوادث الصغيرة كانت هناك حادثة معينة كنت أنا أحد الشهود عليها.

القصة تبدأ في فصل من فصول الصف العاشر في مدرسة ثانوية تقع على الطرف الغربي من مدينة حلب .. الفصل الذي كنت أدرس فيه تحديداً … فصل كأي فصل في المدرسة مملوء بالطلاب المرتدين لباساً عسكرياً موحداً كتعبير هزلي عن المقاومة والتصدي تجاه العدو الصهيوني.

أستاذ التاريخ يقف بمنتصف الفصل يحدثنا باسهاب عن حقبة تاريخية قديمة من تاريخ سوريا .. حقبة الممالك القديمة التي ظهرت قبل الميلاد .. مملكة كنعان وايبلا وماري وغيرها .. كان مقرر كتاب التاريخ في تلك السنة مخصصاً لتلك الفترة الزمنية.

الأستاذ يتحدث بطريقة رتيبة والطلاب ساكتين ما بين منتبه لكلام الأستاذ وما بين الشارد وشبه النائم … هنا قرر أن يخرج عن ما هو منصوص عليه في الكتاب وبدأ يحدثنا عن حضارة معينة كانت قد وصلت لمستوى متطور من القوانين لدرجة أنه يستطيع .. على حد تعبيره .. عامل التنظيفات أن يكون رئيساً لو أثبت أنه يملك المؤهلات اللازمة لهذا المنصب.

الارتجال سلوك جميل يدل على سعة العلم .. هذا في الأحوال الطبيعية .. لكن عندما يتعلق الأمر بالارتجال في أحد مدارس نظام البعث فهو .. بالتأكيد .. سلوك غير حميد.

والذي حدث أن أحد الطلاب الجالسين في الفصل قد أوصل كلام أستاذ التاريخ حول عامل التنظيفات الذي يستطيع أن يصبح رئيساً الى والده .. كان والده مديراً لمدرسة ملاصقة لمدرستنا .. وكان هناك خلافات سابقة بين ذلك المدير وبين مدرس التاريخ .. وهنا أدرك والد ذلك الطالب أنه أمام فرصة ذهبية لرد الصاع صاعين لأستاذ التاريخ فكتب تقريراً بما جرى مع تأويلات معينة وأوصله للجهات المعنية.

الذي يثير حيرتي ودهشتي كلما تذكرت هذا الجزء من الحكاية سؤال معين : كيف عرف الطالب أن ما قاله أستاذ التاريخ صالح لفتح أبواب الجحيم عليه !؟؟ .. يبدو أنه تلقى تدريباً ممتازاً عن طيفية تمييز والتقاط مثل هذه المواضيع القابلة للتأويل.

وبدأ أستاذ التاريخ بزيارة أحد أفرع المخابرات وبدأت تنتشر الأقاويل حتى عرف الجميع ما جرى .. تعلم هذا النوع من المعرفة الصامتة التي لا يجرؤ أحد على الكلام الصريح حولها.

ازداد نحول أستاذ التاريخ .. النحيل أصلاً .. وبدأنا نرى ملامح الغضب والخوف على جهه .. مرة وقف أمام ذلك الطالب الذي كان يجلس في المقعد الأول وأسمعه كلاماً أفهمه فيها أنه يعرف ما جرى بشكل دقيق .. وكان رد فعل الطالب أنه ابتسم وأخفض عينيه.

بعد أسبوع آخر بدا أن أستاذ التاريخ موشك على الانهيار والجنون لدرجة صرخ فيها في الفصل أنه لم يعد يحتمل ويريد أن يربي أولاده .. هذه إشارة طيبة للرفاق في فرع المخابرات .. ويبدو أن هناك من تدخل في لفلفة الموضوع .. وعادت بعدها الأمور لطبيعتها .. كف أستاذ التاريخ عن الارتجال.

بعد ذلك بأيام كانت هناك مناسبة رسمية معينة .. عيد من تلك الأعياد الوهمية التي يجبر فيها الطلاب على الاحتفال في ساحات المدرسة والخروج في مسيرات .. طوعية .. وحمل الأعلام.

كنا مجتمعين وقتها في ساحة المدرسة عندما بدأ عدد من الطلاب بالطلب بصوت عال من الأساتذة واحداً واحداً بأن يرفعوا أيديهم ثم يبدؤوا بعدها بالتصفيق .. عندما جاء دور أستاذ التاريخ كان التصفيق أشد والصياح أعلى وذهب بعض الطلاب إليه وحملوه على أكتافهم وبدؤا بالسير خلال ساحة المدرسة.

لماذا فعلوا ذلك !؟

أغلب الظن أنهم كانوا ممتنين لذلك الأمل الذي نجح أستاذ التاريخ بإيصاله لهم .. الأمل بأن يأتي يوم ما يستطيع فيه أي شخص في سوريا أن يصبح رئيس الجمهورية حتى لو كان عامل تنظيفات لو كان يملك المؤهلات اللازمة لذلك.

أولئك الطلاب الذين كبروا فيما بعد ليصبحوا على موعد مع ثورة أخرى وكان عليهم أن يدفعوا ثمن الصمت الذي أُورث لهم ولم يصنعوه.

حكايا صغيرة حدثت على مر الزمن في أماكن عديدة ..

مدير المدرسة الذي جمع طلاب المدرسة بأكملهم ليضرب أحد الطلاب أمامهم لأنه رد على سؤال الموجّه بأن هذا ليس من شأنه.

طوابير الواقفين أمام مراكز توزيع بطاقات دعم المحروقات.

حكايا الخوف والغضب المكتوم وفقدان الحيلة التي تمتلأ فيها ذاكرة ووجدان السوريين.

قطع حطب صغيرة تجمعت وأشعلت ناراً هرب منها الديكتاتور نحو القبو وأطلق كلابه عليها .. وجاء الحمقى لينفخوا عليها لتشتعل أكثر.

3 Comments

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *