السبت 11/2/2023 الساعة الرابعة صباحاً

الأضواء الخافتة الموزعة على جوانب الأوتوستراد لم تنجح بمحو الظلام القابع والقادم من الأماكن البعيدة الظاهرة بتفاصيل مبهمة في الفضاء المفتوح أمامنا.

نقف على مقربة من موقف الباص ونحن نرتجف من البرد .. درجة الحرارة ناقص سبعة عشر .. لا أدري إن كان تلك التسمية صحيحة .. أين الحرارة أصلاً لكي تكون درجة حرارة !؟

وأنا كنت خائف على العصفور والقط .. على العصفور تحديداً القادم من بلاد لا برد فيها .. هل سيصمد يا ترى ؟

نقف ننتظر صهري الذي تأخر .. اتصلنا بأختي الغاضبة التي أخبرتنا أنه خرج من المنزل من دون هاتفه .. وذهب الى مكان غير المكان الذي أنزلنا الباص فيه.

أربعة ومعهم عصفورهم وقطهم وحقائبهم يقفون في ليلة ذات رياح لاذعة لا تطاق بانتظار الخلاص .. مكان دافئ ومياه ساخنة .. أشياء لازالت بعيدة المنال حتى تلك اللحظة.

شاركشلا من جديد

كنا جالسين في الصباح حول مائدة الطعام نتناول أول فطور طبيعي لنا بعد زلزال شباط .. الثلوج تتساقط باستمرار في الخارج والشوارع خالية سوى من الثلوج والعربات الواقفة أمام المباني.

أما بالنسبة لذلك الموقف الذي حدث ليلاً فقد انتهى كالتالي : اتصلنا بأحد سائقي التاكسي الذي دلنا على واحد آخر وجاء هذا الأخير وأوصلنا الى بيت أختي، وجاء صهري بعد دقائق وهو حائر من كوننا لم نأتي بعد وغاضب لأنه نسي هاتفه.

نظرت شارداً من خلال باب الشرفة الزجاجي .. كان بيت أختي على أطراف البلدة وما بعده أراض زراعية واسعة تنتهي بقرية صغيرة تبدو أبنيتها من بعيد .. مجموعات أشجار تقف متجاورة منتشرة هنا وهناك .. والجبال تغلّف المشهد من بعيد.

ما كان يزعجني وقتها هو ذلك الهاجس الذي يضغط على أعصابي باستمرار .. لقد حدث ذلك معك من قبل .. وأنا كنت أحاول تحاشي التفكير بذلك بلا جدوى .. هذه ليست ديغافو يا صاحبي .. لقد حدث ذلك معك من قبل فعلاً ..

صحيح أنه حدث في ظروف مختلفة ولكن النتيجة واحدة .. أنت نازح الآن وللمرة الثالثة على الأقل .. هذا ساعدك على التأقلم بسرعة مع الأحداث السريعة التي تلت الزلزال وأكسبك مرونة أكثر ولكن الأيام الاستثنائية تلك قد انتهت وأنت الآن على مشارف حيّز زمني مبهم النهاية.

كنت قد أحضرت حاسبي المكتبي معي .. وضعت الصندوق ولوحة المفاتيح في حقيبة والشاشة في حقيبة أخرى .. كان الحمل ثقيلاً ولكن ما باليد حيلة فأنا لا أملك واحداً محمولاً ولا أرغب بامتلاكه أصلاً حتى هذه اللحظة على الأقل.

لكني قضيت حوالي عشرة أيام قبل أن أبدأ باستعماله .. كنت أشعر بتعب عميق زاده ذلك المرض الذي عانيت منه لفترة طويلة في معدتي إضافة لأنفلونزا أذهبت الأحداث أعراضها الثقيلة ولكنها مازالت كامنة بانتظار وقت ما للانفجار.

هذا ما كنت واثقاً من حدوثه قريباً لذلك ذهبت بعد عدة أيام الى المشفى حيث قادتني القسمة الى دكتور جيد والحمد لله كتب لي كورس أدوية ملأ كيساً متوسط الحجم مع تعليمات استعمال حازمة .. وخلال اسبوع كان المرض قد اختفى وأخذ معه أعراضاً عديدة والحمد لله.

كنا قد نقلنا ابنتاي الى مدرستين قريبتان من مكان سكن أختي .. كان هذا أمراً ضرورياً لكي لا ينقطعوا عن الدراسة من جهة ومن جهة أخرى لكي ينسوا ما جرى بانشغالهم بالتحصيل العلمي.

وبقي شعور الضيق الذي كنت أشعر به طوال الوقت .. متى ستعود الحياة الطبيعية أو شبه الطبيعية !؟ .. كان قد انقضى أسبوعان على مجيئي لشاركشلا وأنا لا أحب أن أكون عبءً على أحد مهما بلغت درجة قرابته حتى إن لم يكن يشعر بأني عبء، الوضع الطبيعي هو أن يكون لكل عائلة مكان تأوي إليه ومن الممكن في ظروف معينة التغاضي عن ذلك ولكن ليس لوقت طويل، إضافة الى أنك لن تستطيع العيش بشكل طبيعي ولن تحصل على راحتك وخصوصيتك بشكل كامل سوى في بيت خاص بك.

لذلك بدأنا نبحث على بيت للايجار .. كانت الأسعار قد بدأت بالارتفاع سريعاً لكثرة الطلب والبيوت المعروضة للايجار باتت قليلة بوقت قياسي .. هناك مبادرة من القائم مقامية لاسكان النازحين من مناطق الزلزال ولكن البيوت المعروضة كانت قديمة وتدفئتها على الفحم الحجري .. وبرغم أننا قضينا سنوات عديدة في بيت قديم في نفس المنطقة إلا أن الظروف النفسية على الأقل لم تعد صالحة لخوض تلك التجربة مرة أخرى إضافة الى الأخطار التي تنتج من هذا النوع من التدفئة الذي بدأ ينقرض من المنطقة كلها.

هكذا بدأنا نشعر بالحيرة، كان لا بد من تأمين بيت لكي نستطيع البقاء أكثر، ماذا نفعل !!؟

في اليوم العشرين ذهبنا أنا وزوجتي الى مبنى القائم مقام .. كنا قد قررنا أن نعود لعنتاب لو لم نجد بيتاً وليحصل ما يحصل .. الهزات الارتدادية لا تتوقف هناك ولكن الى متى !؟ .. المشكلة أنه لا يوجد أيّ معيار زمني تستطيع من خلاله معرفة نهاية كل هذا.

شرحنا لسكرتير القائم مقام وضعنا .. كنا في حالة تعب وحيرة ظاهرة … تأملنا السكرتير الكهل لبضع لحظات ثم ابتسم وأخبرنا أن لديه بيت لنا .. وأخذنا بعدها لكي نراه.

الذي اكتشفناه بعدها أنه كان يتحدث عن بيت لم نكن نحلم به .. البيت كان عائد لأخيه المستقر في فرنسا هو وعائلته .. وكان يشغل طابقاً كاملاً من مبنى مكون من طابقين يملك كلاهما .. البيت كان مفروشاً ولا ينقصه أي شيء حرفياً، علاوة على أنه يحوي تدفئة على الغاز الطبيعي.

كان ذلك مقدار من السعادة لم نكن نتصوره لذلك لم نستوعب ما يحدث سوى عندما انتقلنا اليه .. بيت واسع ذو اطلالة رائعة رئيسية واطلالات متفرقة من جميع الجوانب .. والجميل أنه قريب من مدرستيّ ابنتاي بحيث لا يكلف الوصول اليهما سوى دقائق مشي قليلة.

هنا بدأت أشعر بالراحة وبقدر كبير من الاستقرار .. كانت هناك مشكلة مادية معينة تم حلّها أيضاً بطريقة لم تخطر لي على بال وهي من تلك الأمثال التي لا حصر لها على أن الله على كل شيء قدير.

كانت إحدى الغرف تستعمل من قبل أصحاب البيت لوضع المفروشات القديمة التي لم يعودوا يستعملوها .. شيء أشبه بغرفة ضيوف مؤقتة وُضع في إحدى زواياها طاولة طعام قديمة .. وكان هذا أقصى ما أتمناه .. وضعت الحاسب على طاولة الطعام وحولت ذلك الجزء من الغرفة الى مساحة عمل لمتابعة عملي اليومي ولتعلم ريآكت.

المصالحة مع الذات

هكذا بدأت الحياة تسير بشكل شبه طبيعي .. لنقل أنها باتت تسير بطريقة ستجعل الأمور طبيعية بعد قليل من الوقت والاعتياد.

ما ساعدني على ذلك كون أنني لم أكن جديداً على المكان فلقد كنت مستقراً هنا لحوالي أربعة سنوات ونصف قبل أن أنتقل الى مدينة غازي عنتاب

لكن الحقيقة أن هناك فرق كبير بين المرة الأولى وهذه الثانية .. في المرة الأولى كانت أوضاعي المادية ضيقة وكنت أعمل بأعمال يدوية شاقة لا تمت لما تعودته عليه طوال حياتي .. كانت الأوضاع المادية والنفسية بالمجمل ضيقة لذلك لم أكن أحب تلك البلدة أبداً وتحاشيت الذهاب إليها ما استطعت طوال السنوات الماضية.

أما الآن ومع تغير الأحوال بفضل الله فقد شعرت وكأن وقت المصالحة قد حان بيني وبينها، وأنا كنت ممنوناً بشدة لتلك المصالحة لأنها أزالت وقع ذكرى بغيضة عن نفسي وغطتها بذكريات إيجابية أخرى جعلتني أشعر براحة لا حدود لها.

إضافة الى ذلك كانت هناك تغييرات بدأت أشعر بها في نفسي .. أصبحت أكثر هدوءاً بشكل ملحوظ ولم أعد أغضب بسرعة كما في السابق كما أن نوعاً ما من فقدان الذاكرة الجزئي قد بدأت أشعر به نتج عنه أن هناك تفاصيل كثيرة مما قبل الزلزال لم أعد أتذكرها وكأنها محيت من ذاكرتي .. تفاصيل صغيرة غير ذات أهمية على ما يبدو ولا أعتقد أنها مبهجة لذلك لم أحاول تذكرها.

الحصيلة أن الأمور باتت جيدة لدرجة مرضية .. وأخذت عبرة عملية كبيرة بأن الحياة لا تسير كما نتوقع أن تسير بموجب بديهيات نفترضها .. هناك رحمة وتقدير رب العالمين .. وأكبر دليل على هذا أنني أصبحت أشعر براحة أكثر مع أني مازلت بعيداً عن بيتي علاوة على أن الأحوال لم تكن قد استقرت بعد.

لكني تجاهلت كل هذا ومضيت أعيش تلك الأيام في شاركشلا محاولاً بالغ جهدي أن تكون كما كنت أريد دائماً وبأقصى ما أستطيع فعله في ما يخص التصالح مع الذات.

كان شهر رمضان قد أتى وجعل الأمور أفضل .. وبدأت بنشاط يومي ممتع وهو المشي قبل أذان المغرب الى مخبز بعيد لشراء نوع لذيذ من الخبز يصنعونه في شهر رمضان خصوصاً .. البلدة تشتهر عامة بتعدد أنواع المخبوزات وهذا النوع كان من أفضلها.

كان شهر رمضان ذلك لا ينسى وعزز أكثر قناعاتي ونظرتي الجديدة للأمور.

وبدأت أكون عادات ثابتة كالمشي نحو السوق بعد صلاة الجمعة وشراء حوائج البيت على مهل .. والنزهات الليلية حول منطقة البيت حيث الأشجار والهدوء .. وتأمل الليل من خلال نافذة الصالة.

وأنا أحببت بشدة البيت الذي سكنا فيه وكنت أدعو باستمرار لذلك الشخص الكريم الذي جعل حياتنا في هذه الظروف ممكنة ونقلها لمكان إيجابي لم نكن لنتصوره أبداً في أكثر أحلامنا وردية لدرجة أننا لم نكن نشعر بأي غربة فيه.

ولأنني كنت أعلم أن وقت العودة سيأتي مهما مر من الوقت فقد حاولت جاهداً أن أستمتع بالأوقات التي قضيتها فيه .. كانت مساحته الواسعة وترتيبه الجميل مصدر راحة وسعادة لي .. كان من ذلك النوع من المنازل الحديثة التي أخذت الطابع الريفي في اتساعها ورحابتها واحتوائها على المظاهر الطبيعية في حديقتها وفي المحيط الذي حولها بشكل شكلت الأشجار والنباتات والمساحات الواسعة المحيطة به الملامح الرئيسية للمشهد الذي يكسبه تتابع الليل والنهار خصوصية تبعده عن شعور بالملل أو الرتابة رغم الهدوء الذي يكتسي به المشهد بشكل شبه دائم.

القط الذي أصبح أسطورة

الطريف أن هذه التغييرات لم تحدث لي أنا فقط وكان للقط توم نصيب منها .. القط الذي اعتاد على أن يكون القط الوحيد في المنزل اكتشف وجود قط آخر في منزل أختي .. كيرلي الصغير الذي يحب أن يقضي وقته في اللعب والعض عثر على قط أسود متجهم في المنزل فبدأ يحاول اللعب معه من دون أي استجابة إلا بضع نفخات غاضبة .. لكن يبدو أن الاصرار يفعل فعله أيضاً مع الحيوانات لأن تلك النفخات قد تحولت للعب كان أكثره يحدث ليلاً بحيث نسمع خطوات القطّين السريعة وهما يلاحقان بعضهم مع صرخات كيرلي المستنجدة عندما يمسكه توم 🙂

وعندما انتقلنا للبيت المستقل أخذت الحكاية مع توم تأخذ أبعاداً مختلفة.

القط الذي كان أقصى ما يستطيع هو أن يخرج لوقت محدود ويتجول في درج المبنى الذي يقع فيه بيتي أصبح يخرج ويمشي وسط حدائق البيوت القريبة ويطارد القطط ويبعدها عن مكان سيطرته .. تصور هذا !؟ .. قط قضى سنوات يعيش كقط منزل بدأ التصرف كقط بريّ أكثر من القطط البرية نفسها عندما سنحت له الفرصة .. يبدو أنه لم ينسى أصله البريّ .. حتى أن محيط البيت قد خلا من القطط .. لقد كلفه هذا بضعة جروح ناتجة عن بعض المعارك التي لم يعهدها من قبل ولكن ما لبث بعد أن اعتاد عليها أن تحسنت الأمور واختفت تلك الجروح إلا من بعض الندوب الصلبة في رأسه وأماكن أخرى من جسمه.

أخبرتي ابنتي أنها شاهدته مرة ليلاً وهو يطارد اثنين من القطط في أرض قريبة من المنزل 🙂

وأنا أشك أن القطط ستقترب من المنطقة لفترة طويلة وقد يتناقلون بينهم أسطورة ذلك القط الأسود المخيف الذي لم يستطع أحدهم الوقوف في وجهه .. وقد يؤسسون فيما بعد جماعة سرية لتقديسه مع أني أعتقد أن القطط أعقل من هذا بكثير.

العودة

كان قد مر حوالي الخمسة أشهر عندما بدأت الأمور تسير نحو رجوعي الى عنتاب .. ضرورات العمل وضرورة أن لا يُترك البيت خالياً لفترة طويلة .. كانت الهزات الارتدادية قد بدأت بالتراجع وعاد الناس الى حياتهم الطبيعية وسُكن المبنى بالكامل.

هكذا وجدت نفسي أعود الى المنزل .. قضيت أياماً صعبة أحاول فيها التأقلم بسرعة مع الوضع الجديد القديم .. شعرت بغصة كبيرة لانتهاء تلك الأيام مع محاولتي بأقصى ما يمكن في اعتبار أن ما يجري طبيعي جداً وأنني سرعان ما سأنغمس في روتين الحياة اليومي وأنسى بعدها.

وأنا انغمست في روتيني اليومي فعلاً .. ولكني لم أنسى .. ولإن كانت الظروف والمسؤوليات تحتم عودتي فأنا عازم على أن أرجع الى شاركشلا أو غيرها في يوم من الأيام .. الى بلدة ما صغيرة لأسكن في بيت واسع مستقل كما ذلك البيت لأتمشى بعد صلاة الجمعة نحو السوق .. وأتنزه في الليل عبر الأشجار والشوارع الخالية ..

ربما أشتري سيارة كهربائية صغيرة لأتنقل في المنطقة وأذهب الى المدن القريبة لاستكمال الأشياء والأمور التي لن تراها في بلدة صغيرة.

كان فيلم ذكريات صغير وانتهى .. ونحن نحب مشاهدة الأفلام التي تعلق في قلوبنا مراراً ما وسعنا ذلك من سبيل.