عام 2003 – الشهر الخامس
فجأة وجدت نفسي وقد انتهيت من خدمة الجيش، وبرغم علمي المسبق بموعد انتهاء الخدمة إلا أن المفاجئة بقية حاضرة بقوة، والسبب بسيط ومتعلق بكيفية قضاء خدمة الجيش في سوريا والتي تحجبك .. بشكل متعمد .. عن جميع تفاصيل حياتك السابقة لتستحوذ على سنتين وزيادة من عمرك بلا أي مبرر منطقي لكل هذا الوقت.
الخدمة الإلزامية التي تعزلك عن التسلسل الطبيعي لحياتك لدرجة أنك تضطر الى أن تبدأ وقد نسيت الكثير عن التخصص الذي درسته بحكم عدم تمكنك من ممارسته بشكل عملي وحتى لو توفرت لك الظروف لفعل ذلك فستكتشف لاحقاً أن سنوات الجيش التي لا مفر منها سترغمك على أن تبدأ كل شيء من جديد، ستحسد أصدقاءك الذين قرروا عدم خوض هذه التجربة والسفر بدلاً من ذلك للعمل في دولة خليجية ما متجاهلاً حقيقة أنهم وقعوا في الغربة التي سيعانون منها بقية حياتهم حتى إن حدث وعادوا الى بلدهم الأم في وقت ما.
هكذا اكتشفت أنني لا أعرف بالضبط من أين أبدأ، قضيت أسابيع وأنا أعاني من ملل قاتل مع تعكر في المزاج وكثير من الحيرة، لم أكن أرغب أبداً في أي عمل حكومي وكنت أعتبر الدخول في هذا الطريق نوع من الموت السريري، حياة بلا فرصة لأي تطور أو طموح في بيئة على قدر كبير من الفساد الذي سيُفرض عليك لدرجة قد تتورط فيها بأمر ما أو تخرج من هذه المنظومة بقدر كبير من الخسائر والأذى النفسي، لذلك ابتعدت بشكل قاطع عن جحر الأفاعي هذا.
بقي الأمر كذلك حتى عرض عليّ أبي العمل في صيدلية يملكها أحد أصدقاءه، كان ذلك الصديق بحاجة لمحاسب على الكاشير بدوام ليلي، سيكون عليّ السهر طوال الليل من دون إجازة وبراتب بسيط، ترددت قليلاً ثم قبلت، قلت لنفسي أنني سأُمضي على الأقل وقتاً مفيداً الى أن أعثر على عمل بشروط أفضل.
هكذا وجدت نفسي داخل الصيدلية أنا وأحد الأشخاص الذين يعملون في الصيدليات بدون شهادة وهم كُثر في سوريا، يتعلمون عن طريق الممارسة والخبرة وبعضهم لا تستطيع حقاً تمييزه عن أي صيدلي بشهادة معتمدة، كان شاباً من بيئة شعبية، هادئ الى حد ما ومن النوع الذي يُحب أن يوحي للناس أنه يملك حكمة أكبر من عمره، وكان يردد دائماً بأنه متزوج مع وقف التنفيذ على أنه يمارس نوعاً من المزاح وخفة الدم، طبعاً كان يقصد أنه كتب الكتاب ولم يستطع أن يؤمن البيت وتكاليف الزفاف بعد.
كانت الصيدلية كبيرة ومليئة بالأدوية وتقع في حي جديد يمتاز بشوارعه العريضة وبيوته الغالية، برغم ذلك لا يمكن وصفه بالرقي مع أن الناس تحب دائماً أن تربط الرقي بالغلاء وهو ربط غير صحيح.
لم يكن صاحب الصيدلية صيدلانياً، تستطيع في سوريا أن تمتلك صيدلية أو أكثر لو امتلكت ثمن أو آجار المكان مع مبلغ شهري لا بأس به كاف لاستئجار شهادة صيّدلة من صاحبها، والصيدليات نوافير نقود بحسب تعبير دكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله لذلك هي مشروع مضمون لو تناسيت أنها مكان لبيع الدواء فقط ووضعت بجانبه كريمات ومستحضرات نسائية وأدوية أجنبية مهربة وأشياء أخرى مثيرة للرغبات والأساطير الجنسية.
كان صاحب الصيدلية يسكن في نفس المبنى الذي يضمها، لذلك كان يقضي الساعات الأولى من الليل هو وبعض أفراد عائلته في غرفة داخلية في نهاية الصيدلية كنوع من السهرات العائلية، كان لديه ابنة تدرس الصيدلة وهذا يعني أن صيدلية أخرى ستفتتح قريباً، يقضون بعض الوقت ثم يغادرون الى بيتهم ويتركوننا أنا وذلك الصيدلي المتزوج مع وقف التنفيذ حتى الصباح.
كان السهر صعباً في الأيام الأولى ولكن سرعان ما تعودت عليه بخاصة أن صاحب الصيدلية كان يسهر أحياناً هو وأحد أصدقاءه الذي يسكن على مقربة من الصيدلية، يشربان الشاي أو القهوة ولا يكفان على الأحاديث حتى ساعة متأخرة من الليل ثم يمضون بعدها.
ولأن الوقت ليل ولأن المكان هو صيدلية ولأن زبائن الليل مختلفون عن زبائن النهار فلا بد أن تحدث بعض الأمور الغير اعتيادية، كان هناك طبعاً أولئك الزبائن الذين يبحثون عن تلك النوعية من الأدوية التي تسبب الانسطال والتحشيش، كان الصيدلي متمرساً بهذه النوعية ويعرف تماماً كيف يصدهم بحزم وبدون أن يتسبب بمشاكل مع هذه النوعية الخطرة من الزبائن.
مرة دخل على الصيدلية مخلوق بشري ما، كان يمسك بروشتة عليها بضعة أدوية أخذها ومضى من دون أن نستطيع تحديد جنسه وكان هذا أمر غير مألوف في ذلك الزمن.
في إحدى الليالي كان صاحب الصيدلية ساهراً مع صديقه إياه عندما توقفت عربة أمام الصيدلية ونزل منها شاب مع رجل هرم، وقفوا أمام الصيدلي وصاحبها وبدؤوا في التكلم بصوت خافت وبدءنا نفهم ما هنالك، كان الشاب قد تزوج من فتاة منذ بضعة أيام، بعد العرس وكالعادة ذهب العروسان الى عش الزوجية وبدء الشاب يحاول تحقيق أحلامه الجنسية، لا بد أنه بالغ أو أن خطأ ما قد حدث جعل العروس تصاب بالذعر والتصلب العضلي لدرجة لم يستطع العريس أن يفعل شيئاً، وحكا لنا بعدها كيف أن أمه وأخواته حاولن حلّ المشكلة بأن يمسكا له العروس ولم يفلح ذلك أيضاً.
هذا الجزء بالذات من القصة قد جعلني أنا الآخر أصاب بالذعر والتصلب العضلي، لم أفهم كيف يجرؤ أحد ما على التواجد مع العروسين في تلك اللحظة .. ومن !!؟ أمه وأخواته…..
كان هو والهرم الذي هو والده بطبيعة الحال يريدان دواءً يساعد على إنجاز العملية بنجاح وعرضا أن يأتيا بالعروس .. التي تنتظر في العربة .. لو تطلب الأمر إجراء كشف ما، رفض صاحب الصيدلية بهدوء هذا العرض وطلب من الصيدلي أن يعطيهم مهدئاً ونصح بعدها الشاب أن يصبر وأن يعامل زوجته برفق وبلا عصبية وستحل القصة تلقائياً.
أخذ الهرم والشاب الدواء وغادروا الصيدلية، بعدها كان هناك الكثير من الضحك والتعليقات الصادرة من صاحب الصيدلية وصديقه، كان الوقت بالنسبة لهم وقت التظاهر بالحكمة، بالنسبة لي لم أجد ما يضحك ولو افترضنا أن ما حدث كوميديا فهو كوميديا حالكة السواد بامتياز.
كان قد انقضى أسبوعان عندما جاءني هاتف من الشركة التي عملت بها بعدها لسنوات طويلة، كانوا يريدونني أن أبدأ الدوام عندهم فوراً، لم أعرف كيف سأستقيل من الصيدلية هكذا ومن دون إعطاء صاحبها فترة كافية ليبحث عن بديل لي فتطوع والدي بحل هذا الإشكال كون صاحب الصيدلية هو صديقه بالنتيجة، والواقع أنه حُلّ حقاً ولكن هذا تسبب في عدم أخذي لأجر الإسبوعين اللذان قضيتهما في العمل عنده، غضبت قليلاً ولكني تناسيت الأمر وانشغلت بعدها في عملي الجديد ونسيت الأمر برمته.