الآن وبعد أن صار صاحبنا جزء من هيكلية الشركة وصار له ولأول مرة في حياته مكتب وحاسب وأوراق وأقلام ومهام وزملاء عمل والأهم مدير سيتعلم منه الكثير .. الكثير من الدروس والعِبر تحديداً.
بعد هذه النقلة الكبيرة حقاً بتنا نستطيع تركه ونحن في كامل قوانا الضميرية .. الدنيا باتت بالنسبة له مليئة بالهواجس والأماني والأمر متعلق الآن على شطارته أو حماقته أيهما أقرب.
سيقضي بعض الوقت وهو مراقب من الجميع .. زملاء قسمه ومديره وبقية الموظفين والسيد موظف التنظيفات وأيضاً من شعار الشركة الموضوع عند المدخل فوق موظفة الاستقبال .. ومع الوقت سيُنسى ويتم اعتباره جزءاً من الشركة.
سنعود لصاحبنا كلما دعت مصيبة ما الى ذلك ..
لكن لندع كل هذا الآن ولنفتح كتالوج الموظفين لنتكلم عن أنواعهم.
يبدو الموضوع شهياً حقاً ومتاحاً بشكل كبير .. وغالباً ستهز رأسك في سخرية مغمغماً بأن الحكاية قديمة حكاها الجميع بدءاً من تلك الكتب التي تخلط علم النفس بالادارة وانتهاءاً بالستاندات أب كوميدي أنفسهم.
لا بأس .. هذا حدث فعلاً ولكن بأساليب مختلفة .. الكتب إياها حاولت وضع الموظفين في قوالب محددة ومحتومة لن يفلت منها أي شخص داخل محيط العمل .. قوالب صلبة أحياناً ومرنة في أحيان أخرى لكي تسع كل موظف ممكن.
لكن الواقع مختلف والموظفون هم بالنتيجة بشر سلوكهم مبني على تفسيرهم الخاص لمحيطهم الوظيفي والاحتمالات كثيرة بهذا الصدد.
القوالب موجودة فعلاً ليس لكي تسع الجميع بل لكي تعبّر عن سلوك موظف ما في فترة زمنية معينة وفق ظروف ومكتسبات محددة.
الأمر شبيه بالعروض المسرحية .. الممثلون يمثلون وفق الأدوار التي قام شخص ما بتوزيعها عليهم وليس هناك ما يمنع من أن يعاد توزيع الأدوار مرة أخرى أو أن يدخل ممثل جديد على الساحة .. احتفاظ الممثل بشخصيته مرهون بمدى اقتناع موزع الأدوار بإجادته لها وإلا قد يجد نفسه في دور أصغر أو ربما في دور أكبر لو حاز على الرضا.
والأدوار الرئيسية محدودة بطبيعة الحال والكومبارسات أكثر عدداً من الشخصيات الرئيسية.
وهكذا تكون أماكن العمل .. شخصيات بأدوار وفق قوالب معينة .. وأكثر الموظفين هم مجرد نكرات يتظاهر أغلبها بالأهمية.
هذه مقدمة كافية وزيادة .. لندخل في الموضوع الآن.
النوع الأول .. الموظف الصنم
في تلك الأيام البعيدة السعيدة .. الأيام الأولى في الشركة .. الأيام الباسمة السهلة التي لم تتواجد فيها السياسات بعد كان التوظيف يتم بسلاسة أسطورية .. مقابلة سريعة مع صاحب العمل ذو النظرة التي لا تخيب في الناس والذي يتعمد أحياناً توظيف الحمقى لأنه يعرف كيف يأتي بالدبس من مؤخرة النمس.
في تلك الأيام المبهجة تواجد ذلك الموظف في الشركة .. كانت أياماً براقة هي ومعها كل مفروشات وممرات وأجهزة الشركة .. الهواء نفسه كان نقياً ولم يشمّه أحد من قبل.
لكن ولأن الأوقات السعيدة لا تدوم طويلاً على رأي إذاعة الأغاني المصرية .. انتبه صاحبنا في ذلك الصباح أن المفروشات والممرات لم تعد لامعة كما السابق .. والأخطر أن الرعيل الأول من الموظفين الذين أتوا معه لم يعودوا موجودين بعد أن انتقلوا الى أماكن عمل أخرى أو تم استبدالهم ببطء وهدوء من قبل الادارة.
هؤلاء باتوا يعرفون أكثر من اللازم إضافة الى أنهم كانوا شهوداً على تلك الأيام التي كانت فيها الادارة غير ناضجة بعد ولم تكن تصرفاتها رصينة بما فيه الكفاية.
كان هناك شهود وقد تم التخلص منهم .. عدا واحد تحديداً.
لماذا أبقوه في الشركة!؟
هذه حكاية بحد ذاتها سأحكيها فيما بعد .. لكن دعنا نقول الآن أن الاختبارات المعملية أكدت خلوه من أي مسببات إزعاج للادارة … هذا الفحص تم بالطبع بعد أن قطعوا لسانه من الجذور واستبدلوه بلسان آخر معدّ بحرص وعناية.
من المؤكد أن لديك فكرة ولو بسيطة عن طريقة اعداد المخللات .. الأمر هنا شبيه جداً ولكنهم لم ينقعوا اللسان الجديد في مرطبان مغلق قبل أن يضعوه في فمه .. اللسان كان موجوداً في مكان آخر .. في مكان مستقيم ضيق ورطب قليلاً .. أظن أنك بتّ تعرفه الآن.
الأمر الذي أطرب موظفنا الهمام هو أنه بات أقدم موظف في الشركة بالمطلق .. يأتي موظفون ويذهب موظفون وهو جالس في مكانه وقد كفّ عن الترقي منذ زمن بعيد لأن السلم الوظيفي قد انتهى وانتهى معه السطح والمنور الوظيفي أيضاً.
هكذا وببطء تحول هذا الموظف العتيد الى صنم .. موظف جامد فقد أي قدرة على تطوير مساره المهني واقتنع بكيفية محددة يراها فرصة لن تكرر في مكان آخر .. كيفية ظل ملتصق بها بقوة وبلا أدنى رغبة في أي تغيير.
الموظف الصنم له مهامه الوظيفية الخاصة به .. التقليدية منها غير متعبة ولا يتطلب اتمامها إلا القليل من الوقت وأغلبها ذات طابع اشرافي لا يتولد عنه أي مسؤولية .. هذا عن المهام التقليدية.
المهام الأخرى تتنوع بين اعداد التقارير عن الأحوال العامة للموظفين سواء كانت مكتوبة أو كلامية .. وأنا لا أقصد هنا بأنه عصفورة .. القصة أعمق من هذا بكثير ومن المعيب أصلاً وصفه بذلك .. هذا موظف مغرق في القدم يعرف كل تفصيل وكل شبر في الشركة ولديه من المعلومات والوثائق ما لا يملكه أي أحد حتى الادارة نفسها وهو خبير استراتيجي في التوازنات الحيوية ضمن الشركة وفوق ذلك هو يملك القدرة على الاختلاط بالموظفين وجسّ النبض وتوصيل الرسائل .. من أجل العدالة الموضوعية لنقل أنه ثور مجنح وأحد المقتنيات النادرة للادارة .. موظف تربى كل شبر منه بنذر.
الموظف الصنم لا يسمح بأن يأخذ أي موظف أي مكسب زائد عن الحد الطبيعي .. وتعريفه للحد الطبيعي هو أن يبقى ذلك الموظف تحت أنظاره القادمة من أعلى الى أسفل حيث يجب أن يقبع جميع الموظفين.
هو يمتلك أساليب وخبرات متعددة لضمان عدم حدوث أي خلل في ذلك النظام.. مسموح لأي موظف أن يترقى ضمن قسمه ولكنه سيكون بانتظاره في اللحظة التي سيفكر فيها بالتحليق خارجاً .. لا تنسى أنه ثور مجنح يتواجد في الأرض والسماء.
الاستثناء الوحيد بهذا الصدد هو ارادة الادارة التي لا يستطيع فعل أي شيء أمامها سوى التذمر والغضب ومن ثم انتظار تلك اللحظة التي ستنظر فيها نحو ذلك الموظف الذي تجاوز حدوده بطريقة ما بنظرة الغضب .. عندها سيأتي دوره.
علاقة الموظف الصنم بالادارة معقدة قليلاً .. هو مقتنع لأسباب شخصية عديدة بأنه جزء لا يتجزء من الادارة ويتصرف على هذا الأساس .. الادارة تشجعه بشكل غير مباشر على هذا الاعتقاد من أجل ضمان تأدية أدواره الوظيفية بكل إخلاص.
الحقيقة أنها تفعل ذلك حتى تلك اللحظة التي تشعر فيها بأنه تمادى كثيراً .. عندها تخرج له العصا مع زغرة حازمة تجعله ينكمش وهو زعلان وخزيان.
بعدها يأتي دور إخراج الجزرة لتعيد له اعتباره بعد أن فهم الدرس .. ليتكرر ذلك كلما نسي الدرس.
سيبقى الموظف الصنم يمارس دوره التاريخي حتى تأتي لحظة تقرر فيها الشركة أنها لم تعد بحاجة لخدماته ..
الأسباب عديدة هنا ..
مثلاً .. تواجد شخص بديل يستطيع أن يؤدي دوره الوظيفي من دون أن يمتلك المعرفة المحرمة التي بات يمتلكها الموظف الصنم القديم.
أو … لم تعد تنفع سياسة العصا والجزرة معه لأنه لم يعد يستطيع الاقتناع بأنه موظف في النهاية.
أو … تجاوز ما فعله في غفلة بعد أن نسي نفسه أمام الموظفين .. تجاوز لم تستطع الادارة التسامح معه لذلك تحولت القضية الى مناسبة لقطع عصبه وممارسة استراتيجية التأديب الاستباقي مع جميع الموظفين.
عداك عن كل هذه الأسباب أو غيرها هناك سبب بسيط .. الشركة أغلقت أبوابها والمحيط الوظيفي الذي اعتاد عليه طوال تلك العصور قد انقرض بالكامل.
هذه لحظة كارثية بالنسبة للموظف الصنم .. كيف سيعيش بعد ذلك وقد فقد موطنه الطبيعي !؟
الأمر شبيه بعقد زواج طويل انتهى بموت أحد الطرفين ولم تعد الحياة قابلة للاحتمال أمام الطرف الآخر الذي قيل أنه حيّ.
عموماً هذا أمر خارج عن اختصاصنا و ستأتي النهايات بكل الأحوال في وقت ما.
لذلك لو وجدت نفسك يا صديقي موظفاً في شركة تملك موظفاً صنماً عندها أنصحك بالتعامل معه كما تتعامل مع المدفئة .. لا تقترب منها أكثر من اللازم حتى لا تحترق ولا تبتعد عنها لكي ينالك بعض الدفء .. الموظف الصنم يعرف كيف يفيدك لو أراد ذلك.
أبق عينيك عليه دائماً .. اذا نظر لك ابتسم له بحرارة وإجلال .. واذا اقترب منك أكثر من اللازم .. عندها عليك أن تتراجع بهدوء وأنت لا تكف عن الابتسام من دون أن تعطيه ظهرك.
عليك بالحذر منه دائماً ولا تنسى أبداً في أي لحظة أنه ثور مجنح.
التعليقات :