سأعرّفك اليوم على الأستاذ سميح .. الأستاذ سميح هو مدير تنفيذي في إحدى الشركات .. مدير لا يكف عن الحركة وحضور الاجتماعات والحديث فيها بكل إيجابية وحماس .. وكما تعلم لكل إنسان لازمة لغوية يكررها باستمرار في حديثه وأقصد هنا كلمات معينة يمكنك بسهولة توقع أنه سيقولها في أي لحظة ..
واللازمة اللغوية التي يحب أن يذكرها الأستاذ سميح في كل مرة يقف ليوجه كلمة ما الى الموظفين هو مصطلح : ” سياسة الباب المفتوح ” والحقيقة أن الأستاذ سميح مغرم بهذا المصطلح تحديداً ويعدّه ركناً أساسياً من أركان إدارته.
وسياسة الباب المفتوح يا صديقي هي التدابير التي يفعلها المدير لكي يصبح دخول أي موظف لمكتبه لأي سبب متاحاً بسهولة من دون أن يشعر الموظفون بأي ارتباك أو تردد في حال فكروا بذلك .. المصطلح إذن ليس حرفياً ولا تتوقع أن تشاهد باب مكتب المدير الذي يطبق هذه السياسة مفتوحاً دائماً.
هكذا ترى .. لو كنت تحضر إحدى تلك الاجتماعات التي يتواجد بها .. أن الأستاذ سميح لا يكف عن ذكر هذا المصطلح بفخر وبرضا مرعب عن النفس ويشجع دائماً الموظفين بالاستفادة من تلك السياسة حتى آخر فتلة.
هو أيضاً ينهي حديثه بالتذكير بتلك السياسة قبل أن ينتهي الاجتماع أو ينتهي على الأقل دوره فيه .. لتمضي الحياة في الشركة بعدها بشكل طبيعي.
ولكن …..
في واحد من تلك الاجتماعات حدثت طفرة ما .. ولتلك الطفرة أسباب تبدو للمدقق بعناية بما جرى بأن ما حدث بعدها كان نتيجة حتمية .. ولكي أكون عادلاً دعني أخبرك بأن ليس هناك جهة ما وراء ما حدث .. أي أن ما حدث هو خارج عن نظرية المؤامرة وداخل في تصنيف المآسي الاغريقية التي يرى فيها البطل أنه مدفوع نحو النار والمرار من دون أن يملك الخيار .. طبعاً البطل الوحيد في قصتنا هو الأستاذ سميح .. أقولها فقط كي لا يزعل الأستاذ لأن زعله صعب.
الأمر يتعلق بياسين .. ياسين موظف جديد .. لنقل أنه أحدث موظفي الشركة .. أحياناً يكون الموظف الجديد كائناً خطراً لأنه لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم .. ويبدو أنه .. فوق ذلك .. كان بلا أي تجارب سابقة في العمل بالشركات .. ياسين أتى في الغالب من عالم المتاجر الكبيرة التي تمتلك عدداً محدوداً من الموظفين ويديرها صاحب المتجر نفسه .. ويبدو أن تجربته في ذلك الصدد لم تكن مكتملة حتى .. وسأقول لك كيف.
في ذلك اليوم كان ياسين أحد الحاضرين في الاجتماع الشهري الذي كان الأستاذ سميح يصرّ على إقامته في كل شهر .. من أجل مزيد من الدقة .. الاجتماع لا يقام في كل شهر فعلياً بل عندما يقرر الأستاذ سميح أنه مر شهر على آخر اجتماع له مع الموظفين .. هذا حقه كما تعلم.
بدأ الأستاذ سميح في فقرته المفضلة عن سياسة الباب المفتوح وأفاض فيها بعد أن لاحظ أن هناك وجوه جديدة منذ آخر مرة أقيم فيها آخر اجتماع شهري.
الموظفين القدامى .. بالطبع .. كانوا جالسين وهم يحاولون التظاهر بالاهتمام بأقصى ما تسمح لهم خبراتهم المكتسبة من خلال عيشتهم الوظيفية ولكن من دون أن ينتبهوا الى حقيقة أن عيونهم مهما استدارت واتسعت تبقى جافة وزجاجية.
عينان فقط كانتا تلتمعان في سعادة وشغف .. عينا ياسين .. ياسين الذي شعر بأن باب الخلاص قد فتح بطريقة لم يكن يحلم بها.
الواقع أن ياسين كان يعاني من مشكلة معينة تتعلق بالطريق التي يعامله بها مديره، مديره الذي لا يكف عن ممارسة سياسة التيس المحلوب معه لدرجة حولت ياسين الى دارة الكترونية بمقاومات متفحمة.
لم يدري كيف يتصرف إزاء ذلك .. كان بحاجة للمرتب وللشكل الجميل للوظيفة الجديدة بكرسيها وطاولتها والمكيّف الذي يعمل دائماً بعد أن كانت وظيفته السابقة هي خليط بين محاسب وإداري وشيّال .. وكان يتفهم هذا الوضع الوظيفي الغريب لأن المدير هو نفسه صاحب العمل .. ولكن ماذا عن ذلك المدير الذي هو بالنتيجة موظف وليس الآغا والقسم هو إقطاعيته والموظفين هم عاملي السخرة.
لذلك رأى أن الاستفادة من سياسة الباب المفتوح هو المفتاح السحري نحو الخلاص ..
هكذا انتظر ياسين بفارغ الصبر حدوث اليوم التالي لكي يدق باب المدير التنفيذي بهدوء ويدخل بعد أن سمع صوتاً يدعوه لذلك.
تفاجأ الأستاذ سميح قليلاً ثم ابتسم ودعاه للجلوس والكلام.
ولم يكذب ياسين خبراً .. بدأ بالكلام بصوت متهدج وبدأت عينا الأستاذ سميح بالاتساع في صدمة ودهشة حتى صمت ياسين .. عندها أخذ الأستاذ سميح نفساً عميقاً ثم وعد ياسين بأنه سيشكل لجنة تحقيق سيشرف عليها بنفسه وأنه لن يرضى بأن يتعرض أيّ من الموظفين لما يحدث له بتاتاً.
خرج ياسين وأغلق الباب المفتوح وعصافير رأسه تزقزق من الفرحة ومعها عصافير بطنه التي كانت تزقزق من الجوع .. تأثير التوتر على سرعة الهضم فعّال حقاً .. لذلك ذهب لشراء شيء ما يأكله بعد أن شبع من كلام الأستاذ سميح حتى الثمالة.
أما ما حصل في الأيام التالية فعينك لن ترى إلا النور .. نور الممر المتقطع الذي يجلب الصرع طبعاً ..
الأستاذ سميح شكّل اللجنة الموعودة وأتت وراحت تجوب بين أنحاء القسم وتسأل وتستفسر وتجتمع على انفراد مع موظفي القسم وأنهت عملها بعد أن أطلقت رسائل تطمين بأن قرارت حاسمة ستصدر قريباً.
اختفت اللجنة لعدة أيام ثم بدأت القرارات الادارية بالتوالي .. قرارات عديدة يهمنا منها قرار واحد وهو فصل ياسين بعد أن لاحظت اللجنة التدني الملحوظ في أدائه خلال الفترة التجريبية التي منحتها له الشركة.
حاول ياسين المصدوم التحدث مع الأستاذ سميح ليكتشف أن بابه المفتوح قد كفّ عن ذلك لأسباب غامضة ..
الباب المفتوح أصبح مقفلاً ومعه الأستاذ سميح الذي لم يكن يعطيه أي فرصة للحديث في حال صادفه في إحدى ممرات الشركة .. الحقيقة أن أبواب الشركة جميعها صارت مغلقة في وجه ياسين.
الأبواب كلها كانت مغلقة بوجهه عدا باب الشركة الخارجي الذي كان مفتوحاً على مصراعيه وهو ينتظر بشغف أن يعبره ياسين عبوره الأخير.
والحقيقة أن السياسة الوحيدة المتاحة والحقيقية هي سياسة الشباك المفتوح .. الشباك الذي تدخل منه العصافير في كل صباح ومساء لتخبر الأستاذ سميح بما لم يجري وبما جرى.
لا توجد تعليقات