مقدمة
توفى دكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله في أبريل عام 2018 … في الثاني منه تحديداً .. وفاته أتت مفاجئة رغم اصابته بمرض مزمن في القلب .. مفاجئة ومحزنة حزناً مستمراً لا ينتهي.
كان من الكتاب العرب القلائل الذين أوجدوا عالماً قصصياً مستقلاً بذاته من خلال السلاسل التي كتبها والروايات التي بدأ ينشرها في فترة متأخرة من حياته … ويكفي أن أدب الرعب أصبح له أرضية واضحة لدى القراء العرب من خلال سلسلة ما وراء الطبيعة المكتوبة خصيصاً لهم وليست مترجمة كما المألوف.
كان من ذلك النوع من الكتّاب الذين يدفعونك دفعاً لتصبح قارئاً ولا يكفون عن تعليمك أشياء جديدة في كل مرة تمسك بها أحد كتبه وتبدأ بقراءته.
من بين السلاسل التي كتبها كانت فانتازيا وهي تدور حول فتاة اسمها عبير لا شيء يميزها سوى أنها عثة كتب لا تشبع وكان هناك مهندس شاب اسمه شريف اخترع جهازاً يستطيع توليد الأحلام وكانت عبير – كونها عثة كتب – هي المناسبة لتجربته ومن هنا بدأت عبير تخوض مغامرات في أرض تخيلية اسمها فانتازيا اخترعتها كتابات الأدباء عبر العصور .. وكما يوجد في السينما ذلك المرشد الذي يدلّ الناس على أماكن جلوسهم كان لدى عبير مرشدها الخاص وقطار فانتازيا الذي ينقلها من عالم قصصي لآخر .. تزوجت عبير من شريف ولأسباب يطول شرحها حدث الانفصال.
كانت عبير تخوض المغامرات عبر فانتازيا … تحاول منع عالم شكسبير من الاختفاء وتجوب الأدغال مع طرزان وتجوب عوالم المتنبي الشعرية .. وبدورنا كنا نحن القراء نكتشف أماكن ابداعية لم نكن نعرف بعضها .. أغلبها .. أكثرها.
لقد أهدانا أحمد خالد توفيق أليس عربية خاصة بنا.
كانت فانتازيا من السلاسل التي توفى الدكتور أحمد قبل أن يكملها .. ومثلها سلسلة أخرى هي سافاري ولكنها ليست موضوعنا اليوم .. نهاية مفتوحة تمتلك ألف سؤال وجواب ..
ماذا سوف يحدث لعبير في النهاية !؟
وأنا خطرت لي فكرة هذه القصة منذ حوالي السنة .. وبقيت في عقلي طوال الأشهر الماضية وأنا أترقب فرصة ما لكي أكتبها .. ثم حدث ما حدث في فلسطين في السابع من أكتوبر وما تلاه من عدوان وحشي وإبادة جماعية مستمرة في غزة حتى كتابة هذه الأسطر.
الابادة الوحشية التي يقوم بها الصهاينة تجاه كل شيء هناك وبالأخص الأطفال .. الحزن والغضب وتلك المشاهد التي لا تكف عن حرق الأعصاب .. الشعور بالعجز مرير ومؤلم جداً.
لذلك عادت فكرة القصة الى السطح .. ولذلك أنا أكتبها الآن لعل الشعور بالعجز وفقدان الحيلة يهدئان قليلاً في نفسي .. القصص هي خزّانات للذاكرة التي أثبتنا على مر السنوات الكثيرة السابقة أننا نملك نوعاً قصير الأمد منها .. القصة تجعل الحكايا التي تسردها منيعة ضد النسيان .. وأنا لم أعد أرغب مطلقاً بأن أنسى.
لذلك يا صديقي هذه قصة أركانها الرئيسية مستمدة من سلسلة فانتازيا .. تحديداً أبطالها الرئيسيين .. وأنا أؤمن .. والله أعلم .. أن الدكتور أحمد كان سيكتب في فانتازيا عن فلسطين كما كان يفعل ذلك باستمرار في مواضع عديدة من كتاباته لو كان بيننا في هذا الوقت .. لكن قدر الله وما شاء فعل.
أنا أعتبر نفسي واحد من أبناءه الذين كان يتحدث عنهم في مقابلاته دائماً .. هو لم يعرفني شخصياً ولكنه كان يعرف أنني موجود ويكفيني ذلك.
لا أريدك أن تتوقع أبداً قصة بنفس مستوى أسلوبه وجودته .. هذه القصة هي كالساعة التي لا بأس بها .. قد تخطأ في الوقت قليلاً ولكنها تعمل أو هذا ما أرجوه على الأقل .. هي كذلك لأن من صنعها كان أحد صنايعية المحل وليس الأسطى صاحب المحل نفسه .. ويا ليته من قام بذلك ..
لذلك أرجو أن تغفر لي لو لم تكن على المستوى المطلوب .. القضية خاسرة بالنسبة لي حتماً لو قارنتَ ما ستقرأه بما كتبه دكتور أحمد … لذلك أرجو أن تغفر لي جرأتي.
هذا كل ما أردت قوله لك .. والآن لنبدأ بحكاية من حكايا فانتازيا .. حكاية لم يكتبها أحمد خالد توفيق للأسف.
كرسي وطاولة وحاسب صغير
كانت المشاهد لاتحتمل بالنسبة لعبير
المشاهد التي تستغرق دقائق قليلة وتأتي بعدها ساعات بكاء ونحيب طويلة.
وبرغم أوامر .. وليس نصائح .. دكتورها الحازمة بأن تكفّ عن الجلوس أمام التلفاز أو أن تسمع وترى أي شيء يسبب لها الانزعاج والحزن فقد كانت تتجاهل الحاحه ولا تكف عن الجلوس والرؤية والاستماع حتى البكاء.
- أنت لم تعودي صغيرة في السن يا عبير .. افهمي ذلك أرجوكي .. أنت في منتصف الخمسين ولديك دزينة محترمة من الأمراض المزمنة .. السكر والضغط والربو وتعب في القلب مع كومة من الأعراض التي تجعلني مندهشاً حقاً .. منتصف الخمسين فقط وكل هذا .. أشعر أحياناً برغبة في تسنينك من جديد ولن أندهش وقتها لو اكتشفت أنك قاربت المئة .. ما هي الخبرات التي مررت بها لكي تجمعي كل هذه الأمراض.
تبتسم عبير بانهاك وتتمتم بصوت هامس :
- فانتازيا ….
يعقد الطبيب في غضب ويقول :
- ها قد عدنا الى الهراء الذي تردديه دائماً .. لا يوجد شيء اسمه فانتازيا وكل ما جرى هي هلوسات سببها لك المهندس شريف سامحه الله .. دعك من كل هذا .. أحذرك للمرة الأخيرة .. لا تشاهدي أي شيء مما يجري في الدنيا وخصوصاً ما يفعله أولئك الأوباش بغزة وإلا أوصيتهم بوضعك في المستشفى ولنرى كيف ستعصين توصياتي هناك.
تضحك عندها عبير ضحكة خافتة وتقول :
- هكذا سأسمع القصص الحزينة من أفواه أصحابها مباشرة .. أعدك يا دكتور أن أكفّ عن كل هذا بعد عن أموت .. أظن أنه حل يناسبني ويناسبك .. لا تطلب مني أشياء لا تستطيع فعلها أنت أيضاً .. هل تريدني أن أتجاهل حقيقة أن الناس يموتون في غزة والأطفال تبقى من دون آباء أو الآباء بدون أطفال .. هل تستطيع فعل ذلك أنت !!؟
ينفخ الدكتور في ضيق وهو ينزع السماعة من على أذنيه ويرميها جانباً ويستدير خارجاً نحو ابنة عبير وزوجها ليكرر عليهم ما قاله لهم في الزيارة السابقة بينما تعتدل عبير بهدوء لترتدي حذائها وتسير بخطا بطيئة صامتة خارج الغرفة.
بعد ساعة تقريباً كانت تقف وسط الصالة ناظرة الى التلفاز بتردد .. كانت تدرك تماماً أن الدكتور يقول الحقيقة وأنها لن تحتمل هذا الكمّ من الحزن طويلاً ..
لكن الهروب ليس حلاً وهي لن تحتمل أبداً فكرة الحياة داخل شرنقة زجاجية بدعوى المحافظة على البقية الباقية من صحتها .. حياة الشرنقة التعيسة لمن اعتادت على الخوض بعوالم لم يجربها انسان من قبل .. فانتازيا العزيزة وذكرياتها هناك.
الآن صار ممنوعاً عنها حتى جهاز الأحلام البسيط الذي يسميه الناس بالتلفاز بحجة الحفاظ على البقية الباقية من صحتها.
نقلت بصرها عبر باب غرفة نومها .. تحديداً نحو الطاولة الصغيرة الموضوعة في زاويتها قرب النافذة .. وتحديداً أكثر نحو الحاسب المحمول الصغير الموضوع بوسطها والذي تخرج من طرفه حزمة من الأسلاك الموصولة بخوذة معدنية صغيرة.
دي جي 4 .. مولد الأحلام .. تذكرت تلك الأيام الباسمة عندما كان موصولاً بحاسب ثقيل تتطلب زحزحته بعض الجهد .. الجهاز الذي لم يستطع شريف أن يتجاهله قط برغم ما حدث بينه وبينها .. كان يعتبره دائماً ابنه الشرعي واختراعه الذي لم يصلح إلا لواحدة .. لذلك كان هنا دائماً .. وهذا ما جعل الجهاز يعيش ويتطور وجعلها تعيش هي كذلك أيضاً.
شريف كان هنا دائماً .. وكان ما يهمها في هذا الصدد أن تعيش ابنتها حياة طبيعية برغم حقيقة أن والداها منفصلين .. وقد نجحا في اخفاء ذلك عليها الى أن أصبحت في عمر جعلها تتقبل هذه الحقيقة ببعض المضض .. برغم كل شيء كان دائماً هنا وكان هذا أمر لا مفر منه من أجل ابنتها ومن أجل فانتازيا.
كان هنا دائماً .. لذلك مرّ زواج ابنتها بسلام .. كان زوج ابنتها يعرف مسبقاً بذلك ولكنه لم يجد ما يستحق القلق .. هذه عائلة تسير أمورها بشكل طبيعي برغم انفصال قطبيها .. لذلك تجاهل كل هذا وتم الزواج بشكل طبيعي.
كان شريف دائماً هنا .. كضيف نعم ولكنه ضيف يعرف تماماً كيف يملأ الفراغ الذي غادره.
اقتربت أكثر من الحاسب المحمول ووقفت مترددة .. كان شريف قد وضع له كلمة سر ليمنعها من استعماله .. تعليمات الطبيب كانت حازمة .. عبير لم تعد تقوى أن تكون حقل تجارب وسيقتلها ذلك في لحظة ما حتماً.
حقل تجارب !!؟ .. ضحكت بصوت مسموع وهي تضع الخوذة على رأسها .. ضغطت زر التشغيل وبدأ الجهاز بالاقلاع وتوقف بعد لحظات مطالباً بكلمة السر .. شريف كان يعتبرها دائماً كائناً حالماً علاقته الوحيدة بالتكنولوجيا هي ضغط الأزرار لا أكثر .. ولكن معرفة كلمة السر عبر اختلاس النظر لعدة مرات لم يكن يحتاج لأي موهبة تقنية .. لذلك ضغطت عبير عدة أزرار بثقة وبدأ بعدها سطح المكتب الظهور.
سطح المكتب الذي لم يكن يحوي سوى أيقونة واحدة .. نظرت لها عبير في صمت .. هي لم تكف عن الذهاب لفانتازيا طوال الوقت .. وكان الوقت يتباعد بين كل مرة لظروف مختلفة ولكن فانتازيا كانت موجودة دائماً عند رغبتها في الهرب بعيداً .. لكنها لم تكن ترغب في الهرب بعيداً هذه المرة .. كانت تخطط لأمر آخر .. لذلك استرخت في جلستها وقرّبت المؤشر نحو الأيقونة وضغطتها من دون تردد.
الخروج من الخزّان
كانت تقف هناك والهواء يهب مشاكساً ملابسها من زوايا مختلفة ..
سمعت صوت ضغطات القلم الزمبركي المميزة فاستدارت وأخذت تتأمل المرشد في صمت .. كان قد أصابه الهرم هو الآخر .. الحقيقة أنها لم تكن متأكدة من أنه كان كذلك دائماً أم أنه .. ببساطة .. قد أصابه ما أصابها.
خاطبته قائلة :
- يبدو أنك قد صرت عجوزاً يا مرشد.
ابتسم بركن فمه باستهانة وقال وهو لا يكف عن الضغط على رأس القلم :
- هذه أمور نسبية يا أليس .. أنا شخصية قصصية غير مرتبطة بزمن ما .. وحتى لو قرر من يكتبني أن أموت في لحظة ما فهذا غير مهم لأن القارئ يستطيع أن يعود الى البداية في أيّ وقت ويبدأ من جديد .. الشيب والتقدم بالعمر صفات نظرية لا أكثر بالنسبة للشخصيات القصصية.
لوت عبير فمها وقالت باستياء :
- قلت لك أكثر من مرة لا تناديني أليس .. يبدو أن التقدم بالعمر جعل دم فلسفتك ثقيل.
هز المرشد كتفيه وقال وهو يقترب من القطار الذي يتصاعد الدخان من فوهته في ملل :
- دعيك مني ولنبدأ مغامرة جديدة.
ساعدها على الركوب ومن ثم جذب الحبل وبدأ القطار بالتحرك .. وبدأت عوالم فانتازيا بالظهور ..
بول شيلدون المقيد المدمى الأطراف مستلقي على السرير ناظراً برعب نحو الباب .. آني ويلكس تقترب ومعنى هذا هو اختفاء اصبع آخر من أصابعه .. هذه إحدى روايات ستيفن كينغ التي لا تنسى أبداً.
كتكوت بطل رواية فئران أمي حصة يجلس داخل مقرّ أولاد فؤادة المحترق وتلك الرائحة الحارقة النتنة تملأ أنفه .. لا بد من المغادرة وأخذ تلك الطفلة معه .. لا بد.
الزائر الوحشي الشجريّ يقترب من نافذة كونر .. إنه يريد من كونر أن يخبره بالحقيقة وهذا شيء لا يريده كونر أبداً .. لكنه لا يستطيع تجاهل نداء الوحش
العوالم تتتابع والمرشد ينظر نحو عبير بطرف عينه في صبر وعبير تجلس بهدوء وهي تتأمل ما حولها وكأنها تبحث عن شيء معين ..
آآآآه .. ها هو ذا .. الشاحنة تتوقف وسط صحراء مترامية بطقس حار كالجحيم .. السائق ينزل كالمجنون ويصعد الى فوق الخزان ويفتح غطاءه وينظر نحو الداخل في جزع ورعب.
قالت عبير في تصميم :
- أنزلني هنا يا مرشد.
- لكن .. هذا عالم غسان كنفاني .. كنت أظنك تريدين شيئاً يختلف عن ما يحدث في الواقع و ….
- أنزلني هنا يا مرشد لو سمحت.
- كما تشائين يا أليس ..
- عبير أيها المرشد .. عبير.
- كما تشائين يا عبير .. إن أحلامك أوامر.
وجدت عبير نفسها واقفة في سهل زراعي .. كانت تلبس ثوباً واسعاً بسيطاً .. هناك سيارة تقف على مقربة منها وقد دار محركها … كانت خالية إلا من السائق.
أشار لها المرشد وقال بلهجة تقريرة :
- السائق بالسيارة هو زوجك .. أنتما ذاهبان الى حيفا لهدف معين .. هذا كل شيء.
وعندما استدارت نحوه كان قد اختفى.
اقتربت من السيارة وصعدت في المقعد بجانب السائق.
خلدون الذي لم يعد دوف
- هذه هي حيفا يا صفية!
قال لها ذلك من دون أن يلتفت لها .. وهي لم تشأ أن تنظر له بشكل مباشر لأن صوت دموعه مسموع وهي لا تريد أن ترى دموعه.
كان قد أوقف السيارة عند مدخل حيفا .. المدخل الجنوبي تحديداً .. المزارع على يمينهما تمتد ما امتد البصر والبحر على يسارهما .. البحر الذي أثار في نفسها ذكريات مؤلمة.
سيتجهون نحو بيتهم هناك الذين تركوه منذ أكثر من عشرين سنة .. وتركوا مرغمين ابنهم خلدون رضيعاً داخله .. سيكتشفون بعدها أن خلدون قد ربته عائلة يهودية اتت من بولونيا .. العائلة التي سرقت البيت ككل شيء في فلسطين .. وسرقت أيضاً خلدون الذي كبر ليكون دوف الجندي في الجيش الصهيوني .. وسيعودون في خيبة بعد لقاء معه أوصلهم نحو يقين كامل من اليأس.
لكنها لم تكن تريد هذه النهاية قط .. لذلك التفتت نحو زوجها وقالت له في تصميم :
- أتعرف ما هو الوطن يا سعيد ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله.
فتحت بعدها باب العربة وقفزت منها وابتعدت مسرعة بينما صراخ الزوج يتواصل وهو يناديها في دهشة .. واصلت عبير الابتعاد حتى اختفى صوته ووقفت تنتظر على مفترق طريق خال.
سيأتي بالتأكيد ولن يتركها تكمل مغامرتها هنا.
صوت تكتكة القلم الزمبركي .. آآآه .. ها قد أتى المرشد الذي بدى منزعجاً وهو يسألها باستغراب :
- لماذا خرجت من الحكاية !!؟
- لا أريد هذه النهاية .. أريد أن أبدأها في اللحظة التي تركتُ فيها خلدون.
هز رأسه غير مصدق وهو يقول بجمود :
- هذا طلب غير معتاد .. هذه هي البداية المنطقية للقصة … كما كُتبت على الأقل .. ماذا حدث لك يا عبير !؟
- سأحدد أنا بداية القصة هذه المرة .. خذني الى تلك اللحظة .. قبل عشرين سنة .. هناك بدأ كل شيء.
تنهد المرشد وقال :
- ليكن .. ولكني لا أضمن لك ما سيحدث و ..
قاطعته عبير قائلة بتصميم :
- خذني الى هناك وحسب.
هز كتفيه وأشار لها بأن تتبعه ..
سارت الى جانبه ببطء بينما كانت تتصاعد أصوات الرصاص قادمة من بعيد.
- هذا هو بيتك هناك.
أشار الى منزل طليت شرفاته باللون الأصفر .. كانت أصوات القتال تدويّ بحدة بينما يتراكض المقاتلون والناس بين الشوارع الفرعية والرئيسية .. عصابات الصهاينة تقترب والرصاص لا يهدأ.
لم تنتظر رحيل المرشد المفاجئ كما يحدث كل مرة بل ركضت بكل قوتها نحو البيت .. خلدون في الداخل وعليها أن تأخذه معها وتبحث عن زوجها سعيد.
فجأة رأت أمواج من البشر تندفع عبر الشارع وتتحول لسدّ يحول بينها وبين المنزل أخذت تدفعهم كالمجنونة وهي تحاول شق الطريق عبرهم .. أمواج المذعورين الذين لم يشعروا بوجودها أصلاً ..
سقطت عدت مرات وتمزقت أجزاء عديدة من ثوبها .. سال الدم من أنفها ومن عدة جروح .. كانت مصممة على الوصول مهما كان الثمن … لن يُترك خلدون لوحده هذه المرة ولن يتحول الى دوف.
كانت تصيح وهي تدفع الناس وتبعدهم .. ارتطمت في النهاية بحائط .. حائط المبنى تحديداً قرب بوابته الحديدية الرئيسي .. زحفت وهي تلهث بقوة حتى استطاعت الدخول عبر البوابة الحديدية الخضراء ..
صعدت الدرج بسرعة ودخلت البيت .. كان الرضيع يبكي بصوت عال .. احتضنته وهي تبكي معه .. أمسكت حقيبته وملأتها بحوائجه ثم أمسكت بها واستدارت عائدة نحو باب الخروج.
صورة للقدس والمزهرية الزجاجية وأعواد ريش الطاووس السبعة …
ستسير به حتى الميناء وستلتقي بسعيد هناك وسيغادران بعدها نحو رام الله .. وسيعودان بعد عشرين سنة ليزورا بيتهما … ولن يكون ابنهم خالد هو الوحيد الذي سيذهب ليحمل السلاح .. سيكون معه خلدون أيضاً.
* * *
برغم عمر غسان كنفاني القصير أدباً وسنيناً ولكن كتاباته قد صنعت فارقاً ضخماً ولخصت الكثير مما يجب أن يقال حول النكبة وما بعدها وحول أحوال الفلسطينين وما يريدونه وما فعلوه .. التاريخ الذي كان من الصعب عليهم تزويره وقد وضع بهيئة قصص صارخة بالحقيقة .. الحقيقة المليئة بالأحزان والآلام المستمدة من حقائق أشد منها ألماً.
كان غسان كنفاني رجلاً لا يهادن وكانت كتاباته مزعجة جداً ليس للصهاينة فقط .. لذلك تم اغتياله هو وابنة أخته لميس على أيدي عملاء لهم .. وما أكثرهم هذه الأيام.
* * *
كانت عبير تقف ضمن صفين من الناس على طريق مترّب رافعت يديها بشكل متصالب في الهواء … لهيب شمس تموز يلسعها فيسيل منها العرق باستمرار .. الطريق المترّب الذي يصل الرملة بالقدس.
نظرت حولها في جمود … لقد قرأت كثيراً من القصص عن الممارسات الوحشية التي كانت تفعلها العصابات الصهيونية تجاه القرى الفلسطينية .. لكن التجربة شيء آخر .. الواقفون أغلبهم نساء واطفال وشيوخ.
سحبوا صبياً صغيراً من يد أمه وأوقفوه في منتصف الطريق وأجبروه على أن يقف مصالباً يداه واقفاً على ساق واحدة.
المجنّدات اليهود ينتزعن الحليّ منها ومن باقي العجائز والصبايا.
أبو عثمان حلاق وطبيب الرملة يقف قبالتها ويمسك ابنته الصغيرة الأخيرة فاطمة .. تسأله اليهودية عنها فيقول أنها ابنته … ترفع مدفعها وتطلق ثلاث زخات قصيرة ..
أغمضت عينيها أمام المشهد المريع ثم رأت أبو عثمان يحمل جثة ابنته ويسير نحو أول منعطف ..
يقترب جندي آخر من زوجته العجوز الباكية ويطلب منها الوقوف .. لم تقف العجوز .. يتقدم الجندي ويرفسها بقدمه ثم يضع فوهة البندقية في صدرها ويطلق رصاصة واحدة.
أخذت عبير تنشج في صمت .. سيعود أبو عثمان ليكتشف أنهم قتلوا زوجته أيضاً .. وسيذهب الى دكانه ويأتي بفوطة بيضاء لكي يلفها بها ويحملها للمقبرة .. سيأتي بشيء آخر أيضاً.
رأته يتجه بعد أن رأى المشهد الآخر يتجه ويقف أمام الحارس اليهودي ويحادثه وهو يشير نحو دكانه والحارس يهز رأسه رافضاً بشدة ..
هذه المرة لم تكن هي من غيّر الأحداث .. لكنها هي من ستعيدها لمجراها الطبيعي.
لذلك سارت نحو الحارس بثبات وأخبرته بأنها ستذهب هي بدلاً منه .. رضي الحارس هذه المرة وذهبت بسرعة نحو الدكان .. جابت أرجائه وهي تلهث في انفعال حتى عثرت على الفوطة البيضاء وعلى ذلك الشيء الآخر الذي وضعته داخل الفوطة وعادت وأعطته لأبو عثمان وهي تتبادل معه نظرات ذات معنى.
مدّ أبو عثمان يده وتحسس أصابع الديناميت في رضا.
وسمع الناس بعد ساعة انفجار هائلاً في غرفة قائد المجرمين .. الجنود الصهاينة يركضون صارخين بينما كانت تتسلل هاربة بين الحقول.
يتبع ….
بداية جميلة جدا