الهدوء سرى في المبنى أخيراً .. أولاد المدارس ذهبوا إليها منذ نصف ساعة .. أطفال البيوت عادوا للنوم أو مازالوا نائمين ..
هذا هو الوقت للصعود والجلوس على تلك المجموعة الأخيرة من الأدراج التي تفضي الى السطح .. بعض البسكويت وكأس من الشاي والراديو الصغيرة وأغاني الصباح المنعشة .. الصوت المنبعث من الراديو سينبه الصاعدات الى السطح أن الوقت غير مناسب .. في العموم هنّ يعرفن مواعيد جلوسي لذلك احتمالات الاحراج ضعيفة جداً.
ها أنا ذا .. هواء الصباح البارد المبهج الآتي من شباك الدرج وتلك الأصوات المختلطة القادمة من الشارع .. أصوات الحياة.
نصف ساعة أو أكثر قليلاً وأكون أخذت كفايتي من الرضا .. أساليب الرضا تختلف من شخص لآخر .. الرضا له مذاقات خاصة من النادر أن تجد لساناً يشعر بجميعها.
هناك من يتذوقه بهدوء وحرص لكي يحافظ عليه .. وهناك من لا يستطيع فعل ذلك من دون أن يملأ الدنيا صراخاً ..
أتراه يشعر بالرضا !؟ ..
لا أدري حقاً .. البحث واللهاث وراء أمر ما لا يعني بالضرورة أن السير على الطريق الصحيح .. والصراخ قد يولد نهايات فيها صراخ.
قناعات تنتهي بالتصالح مع الذات .. وقناعات تجعل صاحبها لا يهدأ باحثاً عن شيء يعتقد أنه ما يريده ..
لكن هل ما نريده هو حقاً ما سنرضا به !؟
وهل هو حقاً ما نريده !؟
أعتقد أن ……
لحظة !! .. هل هذا صوت باص النقل العام !؟ .. أعتقد أنه هو ..
يبدو أن الحكاية قد بدأت فعلاً ..
* * *
كانت الأمور تسير على ما يرام مع وفاء .. ثم كفّت عن ذلك.
يأتي كلام ويذهب كلام ويبقى هذا الهاجس قابعاً في مكان ما من خلاياها الرمادية .. وفاء لا تعرف أنها رمادية ولو عرفت لارتدت ألواناً تتناسق معها.
كانت الأمور تسير على ما يرام منذ البداية .. تحديداً من تلك اللحظة التي عرفت فيها أن اسمها وفاء وأنها تنتمي .. تشريحياً .. لما يلقبونهم بالبشر.
الواقع أنها فعلت كل ما بوسعها لكي تسير الأمور على ما يرام .. ولم يكن هذا من قبيل المصادفة .. لقد فهمت اللعبة منذ البداية وأتقنتها على مر السنين.
من المؤكد أنها كانت تعرف .. على وجه الدقة .. تفاصيل البداية المبكرة .. أما بالنسبة لنا فالوضع مختلف وهناك أقاويل ..
ولكي لا تتحول الحكاية لدرس تشريح أو نظرية اجتماعية ما فأغلب الظن أن البداية كانت مع أمها .. تحديداً مع عبارات الفخر التي كانت تقولها أمام الجارات بأن ابنتها تقوم بكامل أعمال البيت من تنظيف وطبخ ومع ذلك هي مجتهدة في مدرستها وتكتب وظائفها وتأخذ العلامة الكاملة في كل امتحاناتها.
نحن لا نعلم على وجه الدقة مدى مصداقية هذا الكلام وخصوصاً ما يتعلق منه بالتحصيل الدراسي .. والغالب أن الأم كانت تقوم بنشاط مبكر جداً لتهيئة قدوم عريس لقطة لابنتها.
لا أحد يستطيع تأكيد ما يقال وتحويله لحقائق مدموغة .. ولكننا نعلم يقيناً بأن وفاء كانت تشعر بشعور إيجابي لا يوصف وهي تسمع عبارات المديح من أمها ومن الجارات اللواتي لم يُقصرن في تدليلها وجلب الحلويات لها .. خوفاً من لسان أمها على الأرجح.
هذه هي البداية المبكرة .. على أغلب الظن .. والذي حدث بعدها أن وفاء قد بدأت بالسير عبرها ..
حفظت جزء عمّ وكانت تردد أجزاء لا بأس منها كلما حصلت مناسبة اجتماعية ما … اجتماعات عائلية وأعياد وزيارات للجيران مع أمها وما شابه .. كانت تميّز نظرات الاعجاب والحسد .. تميّزها وتسعدها.
كانت عريفة الصف طوال سنوات المدرسة والويل لمن تحاول .. أو تنوي ولو بالكلام .. أن تأخذ هذا المكان المستحقة له والمحجوز لها.
ولا تسألني عن أحقيتها بأن تكون عريفة الصف طوال اثنتي عشر سنة .. وفاء كانت تعيش في بلد يقتات على أسلوب الحياة هذا بدءاً من الموظف مروراً بالممثل وانتهاءاً بالمناضل والمعلم والمهندس والدكتور والحكيم الأول والقائد الخالد فيما بعد.
إضافة الى ذلك .. كانت هي من تقف في منتصف أي اجتماع يضمها سواء في المنزل أو في الأعراس أو ببيت صديقاتها .. تلك المجلات التي ترسلها لها عمتها الساكنة في بيروت جعلتها تعرف كيف تميز نفسها عن الآخرين قلباً وقالباً .. أحاديث عن أمور لم يسمعوا عنها وألبسة مصنوعة بطرق غير تقليدية جعلتها نجمة الأعراس والحفلات .. برعاية أمها بالطبع.
الى أن جاء ذلك اليوم التي تزوجت فيه ..
للأمانة التاريخية فقط .. نستطيع القول أن الزواج لم يكن ببالها بشكل جدي .. ولكن أمها كانت حاسمة بهذا الصدد بشكل لم تستطع أن تقاومه .. إضافة الى تلك الهواجس التي كانت تملأ بها عقلها حول منظرها أمام المعارف والأصدقاء لو بقيت هي من دون زواج أو .. يا للمصيبة .. لو تزوجت إحداهن قبلها.
بقي تأمين عريس صعب الوصول وخازق للعيون .. كانت هذه مهمة سهلة بالنسبة لأمها التي كانت تملك دائرة استخبارات محترمة قامت بإيصال المعلومات والمكان الى أم العريس التي لم تكذب خبراً.
شاب وحيد يمتلك أبوه محلات أقمشة ومستودعات في المدينة القديمة .. كان عرساً أسطورياً بمقاييس تلك الأيام .. جمل وهودج وعريس ينتظر بالأبهة والسيوف .. مشهد سينمائي بامتياز.
هكذا وجدت وفاء نفسها في بيت صُنعت قطع أثاثه قطعة قطعة بحيث تقطع الطريق على أي خيارات مشابهة .. أوسع وأجمل وأفضل موقع لبيت في المبنى.
ومع مرور الأيام بدأت تشعر وفاء بالفخ الذي وقعت فيه .. في الحقيقة كان هذا هو توصيفها لحالتها ما بعد الزواج ..
لا شك في ذلك .. هناك أشياء اختلفت .. كأنها دورة حياة انتهت فجأة ومن دون سابق انذار .. والأسوء أن هذا آخر .. أقصد أنها لم تكن تتمنى حدوث هذا قط ..
ظاهرياً .. كانت قد نالت أقصى ما تحلم به وما لم تتخيل وجوده أي واحدة من أقرانها .. دواعي وأسباب الحسد الكاملة الأركان .. الكأس مترعة وزيادة .. زوج لطيف المعاملة وبيت كالقصر وإمكانيات مادية أكبر بكثير من إمكانيات أهلها.
ماذا بعد ذلك !؟
لكن روايتها للتاريخ كانت مختلفة .. هي انُتزعت من عرشها بساعة غفلة وأصبحت كغيرها من المتزوجات ولم تعد تستطيع متابعة أسلوب حياتها السابق.
كانت الأمور تسير على ما يرام ثم كفّت عن ذلك فجأة .. ولو كانت تدري لما قبلت بما حدث.
هواجس وإحباطات دفعتها لزيارة صديقتها مريم .. لم تكن وفاء تملك صديقة بالمعنى التقليدي لأنها لا ترى أن هناك من هي ندّ لها لكن مريم كانت استثناءاً عن البقية لأنها معاكسة لها في كل التفاصيل .. لا جمال ولا حضور ومن عائلة فقيرة أي لا يوجد أي خطر منها والأهم أنها تمتلك كرامة أجبرت وفاء على احترامها وأن تشعر نحوها بحب خفي .. الحب الحقيقي الوحيد الذي اختبرته بحياتها.
جلست وفاء وأخذت تهز قدمها اليمنى في عصبية وقد عادت لعادة قضم أظافرها التي حُرمت منها خلال فترة الخطبة .. جاءت مريم بالكعك والشاي وجلست بجانبها وأخذت تتأملها بفضول ..
كانت تعرف وفاء جيداً بحكم سنين العشرة لذلك استشعرت أنها غاضبة من أمر ما .. ستتحدث من تلقاء نفسها فلا داعي لسؤالها .. هل بدأت مشاكل الزوجية مبكراً يا ترى!؟
بعد دقائق صمت تخللتها رشفات وقضمات .. زادت وفاء من هزّ قدمها وقالت بغلّ:
- لم تعد الأمور تسير كما أريد.
رمشت مريم وهي ترمقها بتساؤل ثم سألتها بحذر:
- الخلافات الزوجية في بدايات الزواج طبيعية وستنتهي بسرعة و …
- أي خلافات زوجية يا حمقاء .. هل نسيتي من أنا وما أستطيع فعله .. الأمر لا يتعلق به فهو لطيف وباله طويل ومن مصلحته أن يبقى مقدراً الجوهرة التي نالها .. أنا أتكلم عن شيء آخر.
أخفت مريم ضحكتها بصعوبة .. كانت معتادة على أسلوب وفاء في الكلام الذي يبدو أنه تطور بسرعة و …
- أشعر أنني أصبحت على الهامش والجميع يعاملني وكأنني ملكة بلا عرش .. أنا تزوجت نعم ولكن ليس من العدل أن تتغير الأمور بهذا الشكل.
صمتت مريم قليلاً ثم قالت :
- أنا لا أفهمك يا وفاء .. لم أنت غاضبة وعن أي تغييرات تتكلمين !؟ .. لقد أخذت كل الضرورات وكل الخيارات ولم تُبق على شيء .. زوج غني وسيم يحسدك الجميع عليه وبيت أشبه بالقصر ومزرعة أشبه بغابة صغيرة مع مسبح .. مسبح لك بالكامل !! .. عرس أسطوري لم يجري مثله لأي واحدة أعرفها أو سمعت عنها .. ماذا تريدين أكثر من ذلك !؟
عقدت وفاء حاجبيها وقالت :
- ومن شر حاسد اذا حسد .. أولاً أنا لم أقصد ما قلته وثانياً أنا لست أقل من أن أستحق هذا وأكثر .. أنا أريد أن أظل كما كنت دائماً .. متألقة ومصدر كل الأشياء الجديدة .. الموضة والأخبار والأحاديث والاجتماعات .. أريد أن أظل حديث كل لسان.
ابتسمت مريم بخبث وقالت ضاحكة :
- هذا أمر سهل .. هناك العديد من الأشياء التي اذا فعلتها ستصبحين حديثاً على كل لسان.
صاحت وفاء وهي تشتمها بغضب على حين تراجعت هي قليلاً وصمتت ثم قالت بهدوء :
- تبالغين لدرجة غير معقولة .. أنت متزوجة من أقل من شهر ومن الطبيعي أن تشعري ببعض التغييرات التي ستعتادي عليها بعد مدة وستسير الأمور على ما يرام.
هزت وفاء رأسها بعناد وقالت :
- لن تسير الأمور على ما يرام لو تركتها تسير هكذا لوحدها.
- ماذا ستفعلين !؟
- سأفكر وسأجد طريقة وستسير الأمور كما أريد .. لم تأتي مكانتي بالساهل ولن أدعها تذهب هكذا بالساهل .. أريد أن أبقى كما أنا وسأبقى كما أنا.
- أنت تبالغين يا وفاء.
- أنا لا أبالغ وستسير الأمور كما أريد بالضبط وسترين …
***
أثناء طريق العودة كانت وفاء تفكر بحلّ يعيد لها ما خسرته .. الحقيقة أن جزءاً كبيراً من احباطها وهواجسها كان بسبب تلك الزيارات التي أتتها من أقرانها العازبات ومن أقاربها المتزوجات لتهنئتها وإقامة تلك الحفلات الصغيرة التي تحدث لعدد من المرات بعد العرس.
والذي حدث أنها اكتشفت من خلال تلك الزيارات أن تعامل العازبات منهنّ معها قد تغير .. هي نفسها لم تعد تشعر أنها تنتمي إليهنّ.
وفوق ذلك كانت تشعر بالاستفزاز من أحاديث المتزوجات من أقربائها والتي لا تخرج عن مواضيع محدودة لم تكن تتصور أنه سيأتي يوم تضطر فيه الى الاستماع إليها فضلاً عن مشاركتهنّ بها .. شكاوي من الزواج والأطفال ومواضيع تتعلق بالحمل.
صارت بعيدة عن أسلوب الحياة التي أحبته وأجادته طوال عمرها .. وهي ليست مستعدة أبداً لتقبل أنها صارت تنتمي لفئة مختلفة عن السابق.
هل تعود الى بيت أهلها !؟
ضحكت بصوت خافت وسخرية مريرة من ذلك الخاطر .. هكذا ببساطة !؟ .. وكأنها ستعود عازبة ولن ترجع كحردانة أو مطلقة.
ماذا تفعل !؟
هل تصرّ على صحبتها القديمة !؟ .. هذا نوع من الضحك على النفس .. ستخسر أكثر مما ستكسبه وستكون هذه فرصة للحاقدات منهم وما أكثرهن للتفشي بها باعتبارهن مازالن كعازبات محطاً للأعين بخلافها.
ماذا تفعل !؟ .. ماذا تفعل !؟
كانت قد اقتربت من مدخل المبنى فاقتربت من طرف الرصيف وبدأت بقطع الشارع ….
نستطيع أن نبرر بسهولة ما حدث بعدها .. الغضب والشرود يجب أن يحدثا في الأماكن المغلقة وليس في الشوارع العامة التي لا تكف الأشياء فيها عن الظهور والاختفاء.
والشيء الذي نتكلم عنه هنا هو باص النقل الداخلي الذي كان يعبر في نفس اللحظة التي أرادت وفاء عبور الشارع.
الحقيقة أن الباص قد تجاوزها فعلياً ولكنها لم تنتبه الى أنها اقتربت أكثر من اللازم منه .. من دولابه الخلفي تحديداً .. ولم تنتبه أيضاً الى أن الهواء قد هب في تلك اللحظة وتسبب في تطاير ردائها واقترابه من طاسة الدولاب.
في اللحظات التالية كانت وفاء تصرخ وهي تتطاير ما بين الهواء والأرض مع حركة دولاب الباص .. واحتاج المارة لثوان أخرى حتى يتعالى صراخهم وهم يحاولون إيقاف الباص .. الباص توقف والناس تجمعوا حول وفاء التي تمزق ثوبها وامتلأ جسمها بالسحجات.
لحسن الحظ .. كانت وفاء ما تزال واعية في تلك اللحظات وهذا ما ساعد النسوة التي تجمعن حولها بسرعة وأبعدن الرجال بصرامة في أن يحملنها نحو مدخل المبنى الذي لم يكن يبعد أكثر من خطوات ..
تطلب الأمر بعدها عدة أسابيع لتختفي آثار السحجات ولمدة أكثر لكي تستطيع وفاء أن تنسى ما جرى لها.
***
تلفتت مريم مرات عدة قبل أن تعبر الشارع وتدخل بسرعة عبر مدخل المبنى ..
وقفت قليلاً لتلتقط أنفاسها ثم بدأت بالصعود من خلال الدرج القديم المرتفع .. الطعام جاهز والأولاد مازالوا في المدرسة ولا بأس من زيارة خاطفة قبل أن يعودوا ويعود أباهم.
دقت الباب ففتحت لها وفاء بينما هبّت موجة من العطر الثقيل الذي أصبح علامة مميزة لذلك البيت الأشبه بالقصر ..
ضحكات وكلمات مرحة وسؤال متكرر عن الأحوال .. ثم دخلت طفلة صغيرة برّاقة بعد دقائق واقتربت من مريم وسلمت عليها في خجل ولم تقصّر مريم في تقبيلها.
تراجعت الطفلة بعدها وجلست بجانب أمها التي ربتت على كتفها وضمتها وقالت في فخر:
- هل ترين كم كبرت نسرين يا مريم ؟ .. إنها عريفة الصف وتحفظ جزء عمّ وتأخذ العلامة الكاملة في كل امتحاناتها.
حكاية جميلة جدا
سعيد أنها أعجبتك 🙂