قضيت أغلب سنوات حياتي في مجتمع كان الخوف هو أسلوب حياته المفضل .. الخوف من أي شيء وكل شيء .. الخوف المبهم مع كمّ هائل من الخيال الذي تحول لثقافة راسخة ينقلها الآباء للأبناء بكل حزم وحدّة وبكل خوف لدرجة أنهم في الغالب يصبحون جزءاً أصيلاً من مسببات الخوف.

مجتمع يتجرّع خبرات الخوف من مصادر شتى .. المحاذير المستمرة التي يغرسها أبوك وأمك وما تيسر من أقربائك في أذنيك كي لا تقول أو تفعل شيئاً يعرضك ويعرض أهلك للبهدلة وقلة القيمة. .. الحكايا التي تسمعها من أقرانك حول أولئك البؤساء الذين لم يسمعوا الكلمة فضاعوا.

أشياء تجعلك مجبراً على أن تكون بعيداً عن أي شيء قد يسبب المشاكل .. للدقة بعيداً عن كل شيء مهما كان .. لذلك كان الخوف وسيلة فعّالة لتجميد زمن الأفراد وزمن الشعوب

لكن !؟ .. هل ثقافة الخوف هذه كفيلة بأن تجعلك آمناً وبعيداً عن الأمور التي قد يسبب لك الأذى !؟

سؤال جيد .. وإجابته الحكاية التالية …

***

الظلام يغمر الموجودات في الخارج .. هذا إن كان هناك موجودات أصلاً .. تظهر أحياناً أضواء خافتة بعيدة ما تلبث أن تختفي مع استمرار تحرك الباص الصغير الذي أقبع به مع مجموعة متباينة من البشر ساعد الظلام على بقاء ملامحها مجهولة لأي مدقق .. لم تكن الجوالات منتشرة في ذلك الوقت لذلك كان مصدر الضوء الوحيد هو لمبة بحجم حبة دواء وُضعت وراء السائق.

البرد والظلام والباص الصغير يتحرك بإصرار ..

الباص الذي يحتوي على دفء مختلط بروائح تجعلك تفضل البرد عليها .. والويل لك إن تجرأت وفتحت الشباك لتجديد الهواء.

كنت وقتها في مرحلة خدمة الجيش .. لقد اكتشف القائد المفدى في لحظة من لحظات إلهامه التي لا تنتهي أن عمرك مديد وأنك تبعزقه في أمور فارغة فأمر باقتطاع سنتين ونيف من عمرك كنوع من النضال لاسترجاع الأراضي المحتلة.

حصل هذا في آخر العام 2001 على ما أعتقد .. كنت وقتها عائداً الى دمشق من إجازة قضيتها مع عائلتي في حلب ..

نور الفجر يتخايل في استحياء وكأنه شعر مسبقاً بأنه غير مرحب به في هذه البقعة القاحلة أرضاً وفكراً … أنزلنا الباص أمام القطعة العسكرية بعد أن خفف من سرعته قليلاً ولم يتوقف بشكل كامل .. كنت بصحبة أحد الرقباء المجندين الذي نصحني بأن لا أدخل من الباب الرئيسي وأن أعبر معه عبر السور الشائك بدلاً من ذلك.

قالها لي بوجه مرهق شبه نائم .. ثم اقترب من باب الباص ووضع حقيبته على ظهره … كان الباب الرئيسي بعيداً عن مقصدنا وكان علينا .. لو دخلنا عبره .. أن نسير لمسافة لم نكن نرغبها بعد ساعات طويلة من السفر والتنقل .. لذلك وضعتها أنا الآخر على ظهري ونزلت معه من الباص وأنا أشعر ببعض التوتر.

بسرعة وخفة رغم انهاكنا اقتربنا من السور الشائك وبحثنا عن ثغرة ما خالية من الأشواك المعدنية .. آه ها هي ذي .. مرقنا منه وبدأنا نسير ونحن لا نكف عن عن اللهاث وعبّ الهواء.

النور يتزايد والمكان هادئ وخال .. ونحن نقترب من هدفنا عندما بدأنا نلاحظ أننا لسنا بمفردنا وأن هناك من يقترب .. ثلاثة من العساكر الملثمين .. صاح زميل التسلل في صوت مبحوح :

لم تمض دقيقة أخرى حتى كنا في قبضتهم .. تكلم صاحب الطريق مع أحدهم وأخذ يرجوه بأن يتركونا نوصل أغراضنا وسنأتي بعدها إليهم .. بعد محاولات وكومة من الحلف بالغوالي وبالبلد الذي يجمعهم .. الضيعة أو البلدة أو المدينة وليس الوطن طبعاً .. وافق زعيمهم على مضض وذهبنا بنفوس وعقول سوداء كلّ نحو القسم الذي يخدم به.

أيقظت اسماعيل وهو رقيب مجند أقدم مني وحكيت له ما حدث .. كانت علاقاته قوية مع الموجودين في القطعة فتكلم مع العديد من أصدقاءه ليحاولوا اعفائي من الذهاب هناك .. أغلق السماعة بعدها وهز رأسه في أسف وأخبرني أن لا مجال لأن الضابط المناوب قد رآنا أيضاً وعدم ذهابنا يعني أن يوضع الثلاثة في السجن بدلاً منا.

هكذا وجدت نفسي أتجه نحو سجن القطعة القابع عند الباب الرئيسي حيث يراه الغادي والرائح كنوع من الشعار للمرحلة الطويلة .. وكان من أوائل من استقبلني هناك لطمة من يد عسكري وسخ .. لا بد أنك قد سمعت بما جرى ويجري في سوريا لذلك من الممكن أن نعتبر هذا نوعاً من المجاملة لأنني .. على الأقل .. لم أتعرض لشيء آخر كالذي كان يتعرض له ذلك المسكين الذي دخلت من باب القاووش على وقع أصوات استغاثاته من جراء الفلقة التي تنهش رجليه بلا توقف.

الأمر الآخر الذي كان باستقبالي أو لنقل بانتظاري كان تلك الرائحة اللعينة التي تملأ القاووش والتي مصدرها دورة المياه المقامة داخل القاووش والتي تسمى بالبخشة من دون أي ساتر سوى قماشة مهترأة لم تستطع ستر نفسها .. أما الذي كان يحدث فعلياً هو أن الجميع كان يتجنب النظر بمجرد أن ينهض أحدهم ويتجه نحو البخشة وهذا ما يؤمن الستر للمسكين الذي تحركت أمعاءه في هذا الوقت الحرج .. أصبت بالرعب وتخيلت نفسي جالساً هناك .. ماذا سأفعل !؟ .. يبدو أن الحل هو انتظار الليل .. ولكن هل سيكون الأمر بيدي حقاً !!؟

نظرت حولي باحثاً عن زعيم القاووش الذي من المفترض أن يكون باستقبالي هو ورجاله لكي أتلقى منهم علقة على سبيل تأكيد زعامته ولكني اكتشفت أن لا زعيم لهذا القاووش وأن ملامح التوتر والخوف الباقي على البقية تشي بأنهم هم أيضاً جدد هنا باستثناء شخص رفيع قصير القامة يجلس بهدوء وتسليم متحدثاً ومتصرفاً كأنه يعيش هنا منذ قرون.

بعد دقائق دخل صاحب الطريق وجلس بجانبي وهو لا يكف عن التجهم والحديث بما هو أشنع من التجهم.

بعد عدة ساعات فهمنا أننا سنخرج وأن هناك من توسط لنا .. لكن الأمر لم يمضي بلا ثمن وكان الثمن هو حلاقة شعر رأسي بشكل كامل … غضبت وترددت في البداية ولكن نظرة واحدة الى البخشة جعلتني أخرج مسرعاً وليكن ما يكن .. شهران على الأكثر وستعود الأوضاع كما كانت .. المهم أن أخرج من ماسورة المجاري هذه.

وإذا كنت قد فعلت شيئاً قد يستوجب العقاب نظرياً كالعبور من السور بدلاً من الباب مع أن الجميع يفعل ذلك .. إلا أن المرة الثانية كانت مختلفة .

هل هناك مرة ثانية !!؟ .. نعم والحمد لله أنه لم تكن هناك ثالثة وإلا لصرت ردّ سجون مثل أبو عنتر لكن من دون بااااطل.

في المرة الثانية كنت أسير مع أحد العساكر الجدد متجهاً نحو ديوان القطعة لكي أعلمه كيف يأخذ من هناك البريد الخاص بالقسم .. كان ذلك العسكري شاباً عميق الاسمرار صغير وأسود العينين ضخم الشارب من حمص من منطقة تشتهر بأنها مركز لتهريب السلاح.

كنا نسير عبر الشارع عندما مرت عربة رئيس الأركان وكان من المفترض أن نؤدي التحية العسكرية أثناء مرورنا ولكننا لم نفعل ذلك لسبب بسيط .. كان زجاج العربة أسوداً بالكامل ولم نستطع رؤية من في الداخل فافترضنا أنه سائق العربة فقط ولكي لا ندخل في احتمال أن نصبح محل سخرية بأننا أدينا التحية لعسكري لمجند دخلنا في هذه المقامرة التي انتهت بأن اتجه إلينا أحد أفراد الشرطة العسكرية وقبض علينا بتهمة عدم احترام الرتب العليا وإثارة البلبلة .. وأنا لا أعرف من أين أتت البلبلة في ذلك الطقس الحار جداً ومن يستطيع أن يحدث أصلاً في ذلك الوقت أي بلبلة.

لم أشعر بالانزعاج كثيراً فلم تكن هذه أول مرة لي في السجن علاوة على أنني أصطحب هذه المرة شاباً يأكل الحجر والبشر وقدرت أنها ستكون ليلة سوداء على اللي جابوا نزلاء القاووش حتى إن كان من بينهم أبو عنتر شخصياً.

لكن الذي حدث هو أنه جلس وأخذ يندب حظه ويتمايل حتى ظننت أنه سيحثو التراب على رأسه ولكني اطمئننت قليلاً لأنه لا تراب في القاووش وعوضاً عنه يوجد .. احم.

هكذا قضيت الوقت وأنا لا أكف عن الضحك ولا يكف هو عن الندب والتحسر حتى جاء من يدعونا للخروج من السجن.

هذه هي تجربتي مع السجن والحمد لله أنها لن تطل ولم تكن في ظروف أخرى وفي وقت آخر من المستقبل الأسود الذي أصبح الآن ماضياً مستمراً.

هذا هو جواب السؤال …. وإن كنت يا صديقي من محبي الأجوبة القصيرة فدعني أقول لك :

عندما تعيش أنت والبخشة في حيّز جغرافي واحد فسيأتي يوم لا مفر منه وتقبع بجانبها بلا أمل أو ستأتيك رائحتها في لحظة ما وبلا سابق إنذار.

أعتقد أن الجواب قد وصلك بشكل واف.