الثلاثاء 7/2/2023 – اليوم الثاني
أدرتُ عيني سريعاً أتامل المشهد حولي .. الدنيا ما تزال في الصباح الباكر وأضواء الصباح خافتة وهناك حركة استيقاظ خفيفة حولي، المقاعد التي وضعناها حولنا أعطتنا بعض الخصوصية والجو والحمد لله دافئ.
كانت ليلة مرهقة جداً وكنت أستيقظ كل نصف ساعة تقريباً على وقع هزة ارتدادية مرة وعلى هاجس أننا نائمون بكامل ثيابنا في مدرسة مرة أخرى اﻷمر الذي لم يحصل لنا من قبل رغم ما مررنا به في اﻷشهر الصعبة التي سبقت انتقالي للحياة في تركيا.
خرجت متجهاً لدورات المياه .. الممرات باردة جداً والمياه كذلك بحيث يُشعرك استعمالها بأن أنفاسك قد توقفت من شدة اﻷلم ..
رأيت في زاوية بصري اليسرى شبح طفل يقف ساكناً في الظلام بشكل دفعني للتساؤل عن هويته و … آآآآآه إنه تمثال الصبي الذي يرتدي زياً مدرسياً.
عندما عدت وأنا أرتعش من البرد كان البقية قد استيقظوا وبدأنا نتابع اﻷخبار ونتواصل مع اﻷقارب واﻷصدقاء في مختلف المدن المنكوبة.
ومع الوقت بدأنا ندرك أكثر الحجم الحقيقي للكارثة .. بيوت مدمرة في كل مكان وأبنية تسقط فجأة واﻷشد مرارة أنني بدأت أكتشف أن عائلات كاملة قد ماتت تحت اﻷنقاض خصوصاً بعد أن بدأت تأتيني أخبار عن أناس أعرفهم بشكل شخصي أو مرت عليّ أسمائهم في مناسبات مختلفة قد باتوا موتى هم وعائلاتهم.
كنت أشعر بمشاعر متضاربة ما بين الحزن على موتهم بهذه الطريقة المؤلمة بحيث لم يكن لديهم الوقت للهرب خارج منازلهم وما بين مشاعر الراحة والرضا من أن الله أنجانا من نهاية مماثلة.
ولكي أهرب من أكوام التفكير المتعِبة خرجت لشراء طعام اﻹفطار واصطحبت ابنتي الصغرى التي ألحت عليّ بأن نذهب أولاً للبحث عن القط توم حول المبنى الذي نسكن فيه وباقي اﻷبنية من حولنا.
بدأنا نسير هناك وهي تنادي عليه .. كان المطر قد توقف والغيوم سوداء معلقة في السماء تُنذر بالمزيد .. لاحظت أن هناك كتلة كبيرة من الاسمنت وأسياخ الحديد موجودة أمام أحد اﻷبنية واستغربت من وجودها وظننتها من مخلفات عملية اصلاح ما .. لاحظت وجود كُتل مشابهة في مباني أخرى ولم أفهم سبب وجودها .. اكتشفت فيما بعد أنها جزء من حواف اﻷسطح التي سقطت من جراء الزلازل المتعاقبة ولك أن تتخيل ما كان ليحدث لو تصادف وجود شخص ما مكان سقوطها.
بحثنا عن القط توم بلا فائدة وفي النهاية اتجهنا يائسين نحو المتجر المجاور واشترينا كمية صغيرة من طعام الافطار وعدنا نحو المدرسة .. كانت البضائع في تناقص مستمر ولا وجود للخبز .. عموماً هناك كمية كافية منه جلبتها من المنزل البارحة.
عربات اﻹغاثة المحملة بالطعام قد بدأت بالحضور وتوزيع الطعام على الناس وقد استمر هذا خلال اﻷيام التالية بشكل منتظم في الصباح والمساء وقد اتفقوا مع أحد المطاعم في السوق التجاري بجانب المدرسة بأن يطبخ طعام الغذاء ويقوم بتوزيعه بعدها على الناس .. عداك عن المساهمات الفردية لمن أتى ومعه مستلزمات طعام وموقد غاز وقام بعدها بطبخه وتوزيعه للناس .. كان أفضل ما يمكن تناوله كوباً من شوربة العدس مع قطعة من الخبز التركي .
لم يكن هناك ما نستطيع فعله سوى الجلوس وتصفح اﻷخبار والخوف عند حدوث هزة ارتدادية كبيرة خوفاً من أن تتحول لزلزال مدمر لذلك كانت عيوننا معلقة دائماً على أي شيء خفيف قابل للاهتزاز.
خرجت بعدها للممر لإجراء مكالمة، أعداد الناس بدأت بالازدياد داخل المدرسة والممر لم يعد شبه خال كما في السابق، عدت الى غرفة الفصل وجلست أمام جهاز التدفئة لتخبرني زوجتي بأنه بدأ يبرد وأن هناك من أغلق التدفئة على ما يبدو .. وكأن هذا ما ينقصنا !!؟ .. عرفنا فيما بعد أن امداد الغاز توقف عن المدينة كلها لكي يتمكن الفنيون من فحص اﻷنابيب الرئيسية خوفاً من احتمال تضررها وانفجارها كما حدث في أماكن أخرى.
لكن وبرغم كل شيء فالنتيجة أننا سنصبح بلا تدفئة وهذا مشكلة كبيرة في هذا الطقس البارد جداً .. في النهاية أتى الحل على شكل مدفئة كهربائية كبيرة قام جيراننا في الغرفة بجلبها من بيت أحدهم ومع أنها في الطرف المقابل إلا أن الدفء قد عاد للانتشار مرة أخرى.
هكذا حُلت مشكلة التدفئة لكن .. بالنسبة لابنتي الكبرى .. كانت المشكلة الحقيقية هي ضياع القط توم وبدأت تبكي وطلبت مني أن نذهب لنبحث عنه مرة أخرى .. أخبرتها بأننا بحثنا فعلياً في كل مكان من دون فائدة فقالت أنه سيخرج من المكان الذي يختبئ فيه عندما سيسمع صوتها.
كان قد مضى على البحث اﻷول عدة ساعات ولم يكن لدينا ما نفعله بالاضافة الى أنني كنت أشعر بالحزن عليه ﻷنه .. كقط منزلي .. لم يكن يجيد تأمين الطعام لنفسه ومن المؤكد أنه قابع في مكان ما جائع وخائف.
ولم تختلف النتيجة .. ناديناه مراراً بدون فائدة .. عدنا بعدها الى المدرسة بخيبة كبيرة وقد بدأت أشعر أننا لن نراه مرة أخرى وأن مكروهاً ما أصابه .. لاحظت أثناء تجوالنا أن المحلات والمخابز مازالت مغلقة ويبدو أنها لن تفتح اليوم أيضاً .. وبدا لي هذا منطقياً فالناس لن تترك أحبائها لتمارس حياتها الطبيعية في هذه الظروف بالاضافة الى أن هناك الكثير ممن أصبحوا خارج المدينة إما هرباً نحو الريف والمدن اﻷخرى أو لنجدة الذين مازالوا عالقين تحت اﻷنقاض.
لذلك قدرت أن عليّ البحث عن مكان ما يبيع الخبز قبل أن ينفد بشكل كامل .. عدتُ وخرجتُ بصحبة ابنتي الصغرى هذه المرة وبدأت البحث في المنطقة بلا جدوى … مررنا على فرن يدوي قريب واكتشفنا أن الزلزال قد دمر بيت النار وأن صاحبه قد أخرج قطع القرميد اﻷحمر الكبيرة ووضعها أمام الفرن .. مشهد حزن صامت ومُعبر.
ابتعدنا أكثر نحو فرن آلي ورأينا من بعيد طابوراً طويلاً يقف أمامه وقدرت أن الظلام سيهبط قبل أن نتمكن من شراء الخبز مع احتمالية أن تنتهي الكمية قبل أن يأتي دورنا حتى … وفوق ذلك هناك مشكلة تأمين الطعام مع قلة المتاجر واستحالة الطبخ في مكان إقامتنا لذلك لم يبق حل أمامي سوى الصعود نحو البيت لجلب الخبز وطعام اليوم السابق للزلزال من الثلاجة .. أعطيت بطاقة المصرف لابنتي وطلبت منها أن تعطيها ﻷمها واتجهت نحو المبنى.
صعدت الدرج الطويل .. درج اﻷحد عشر طابقاً .. كان المبنى شبه خال إلا من بعض الجيران الذين دخلوه ﻷسباب مشابهة ﻷسبابي .. الاحتمالات الواردة جداً لحدوث زلزال مدمر في أي وقت تدفعني للاسراع أكثر .. وصلت للبيت ودخلته وتفاجئت بأن أحد ثريات الصالة قد وقعت وتحطمت قطع عديدة من زجاجها وبأن المكتبة في غرفتي قد وقعت هي اﻷخرى .. أسرعت وأعدت إيقافها وجمعت الكتب ووضعتها على اﻷرض حولها ثم أعدت تمديدها على اﻷرض خوفاً من أن تقع مرة أخرى من جراء زلزال آخر .. يبدو أن الزلزال الثاني الذي حدث البارحة لم يمر من دون خسائر .. لكن والحمد لله كانت الكتب بخير.
جمعت الخبز ووضعته في كيس وأخرجت الطعام وسخّنته ووضعته في أوعية .. كنت أشعر بأنني أتحرك ضمن توقيت تنازلي مجهول القيمة زاد من توتري ومن إسراعي بالانتهاء لكي أتمكن من النزول قبل حدوث أي شيء مفاجئ .. وضعت بعض الطعام أمام البيت للقطط أو للقط توم لو حدث وعاد ليقف أمام باب المنزل .. ثم جلبت غطاءاً كبيراً من غرفة النوم وأمسكت بكل ما جمعته وخرجت واستعددت لاقفال الباب.
هنا لمحت بزاوية بصري شيئاً ما يلمع في ذلك الفراغ الضيق وراء خزانة اﻷحذية .. دققت أكثر واكتشفت أن ما يلمع هو عين قط … القط توم تحديداً.
وضعت الأغراض جانباً وأنا أشعر بفرحة كبيرة .. ها هو ذا شعور إيجابي بعد كل ما جرى .. أزحت الخزانة وتأملته .. كان قابعاً بهدوء كامل على سجادة صغيرة وضعناها مسبقاً فوق جهاز التدفئة القديم الذي لم يعد يستعمله أحد منذ زمن لذلك لم يكن من الممكن رؤيته لولا ذلك اللمعان الذي لمحته بالكاد .. أمسكته ووضعته على ظهري فتحرك قليلاً نحو كتفي وأمسك بيّ في قوة .. حملت باقي اﻷغراض وبدأت أنزل في هدوء لكي لا يشعر بالخوف ويهرب مرة أخرى ولكنه .. ولله الحمد .. بقي متشبثاً بي في وهو ينظر حوله في صمت وخوف.
خرجت من المبنى وأنا أشعر بالارتياح ورأتني ابنتي الكبرى من خلال شباك غرفة الفصل المطلة مباشرة على المبنى كما أسلفتُ سابقاً فركضت نازلة نحونا وهي تمسك بعلبة القط وأخذت تنادي عليه وبدأ القط توم بعدها بالمواء.
اﻷربعاء 8/2/2023 – اليوم الثالث
لم يحدث ما يستحق الذكر اليوم سوى أنني بدأت أشعر بالغضب من اﻷصوات التي يصدرها أطفال المقيمين معنا في نفس الغرفة .. أتفهم عادة بكاء وتململ الطفل الجائع أو الموجوع أو الغاضب من شيء ما ولكن أن يستمر ذلك لمرات عديدة وفترات طويلة فهذا أمر .. بالنسبة لي .. غير قابل للتحمل خصوصاً في هذه اﻷوقات المليئة بالتوتر والحزن والتعب.
حاولت تجاهل كل هذا برغم صعوبة أن يتم تجاهل صراخ طفل أو طفلة من دون أن يقوم أهلهم بفعل شيء حقيقي لاسكاته .. كان هذا هو يومي الثالث بكامل ثيابي ومن دون استحمام ولو كان الطقس حاراً لشكّل هذا مشكلة كبيرة ولاضطررت الى الصعود للمنزل وأخذ حمام كما حدث مع أحد المعارف الذي فعل ذلك وبدأت بعض لحظات من دخوله هزة ارتدادية جعلته يخرج صارخاً منه.
قمنا بعدها بترتيب مقاعد الدراسة بحيث حوّلنا كل مقعدين لما يشبه السرير لكي ننام عليها بدل من نومنا على اﻷرضية لكن بقية مشكلة أن المقاعد كانت أقصر من قامتنا لذلك اضطررنا الى النوم وجزء من أرجلنا خارج المقعد الذي كان النوم عليه صعباً خصوصاً أننا لم نكن نحمل ما يكفي من اﻷغطية لكي نضعها بيننا وبين أخشابه.
ذهبت لأصلي الظهر في الجامع واكتشفت أن متجر بيم قد عاد لفتح أبوابه .. دخلت له مسرعاً وبدأت بشراء الطعام الجاهز والخبز المتبقي من يوم ما قبل الزلزال والذي كان صالحاً للاستعمال .. كان عدد المشترين قليلاً ويبدو أن خبر إعادة فتحه لم يكن قد وصل للناس بعد .. خرجت بعد أن اشتريت كمية لا بأس بها وأوصلت المشتريات لمكان اقامتنا وعدت ﻷُصلي في الجامع.
القط توم كان لا يزال في علبته ولا يأكل إلا بالكاد .. أخذته لكي يقضي حاجته أكثر من مرة ولم يفعل .. المشكلة أنه لا يوجد تراب جاف والمطر مستمر بالهطول كل فترة وأخرى .. لذلك جلبت له بعض التراب من المنزل عندما صعدنا لاعداد الطعام الذي قمنا بشراءه من متجر بيم وأخذناه الى مخزن خال في الطابق العلوي من المدرسة وبعد عدة مرات بدأ يلبي نداء الطبيعة.
قد تتسائل لم نعرض نفسنا للخطر بصعودنا المتكرر نحو المنزل !؟؟ .. المشكلة أننا كنا بحاجة مستمرة لبعض اﻷغراض إضافة الى أن تسخين وإعداد الطعام الذي اشتريته كان متعذراً في غرفة الفصل ولم يعد الطعام ترفاً في ظل التوتر واﻷوضاع المحيطة بنا .. ولم يكن الطعام يوماً هو نوع من الترف.
علمنا بعد تناول الطعام أن إحدى العائلتين اللتين تقيما معنا في الغرفة ستسافر الى مدينة أخرى بعد ساعات وأن العائلة اﻷخرى ستسافر بعد أيام قليلة الى مدينة في أقصى شرق تركيا .. هذا خبر جميل من ناحية الانخفاض المترقب لصراخ اﻷطفال وسيء من ناحية أن هذا سيؤدي بأن يأتي أناس آخرون مكانهم ولم يكن من المضمون أن يكونوا باحترام وأخلاق الموجودين حالياً.
الخبر السيء اﻵخر أن المياه قد قُطعت حتى يتم التأكد بأنها لم تختلط .. بتأثير الزالزل المتتالية .. مع مياه المجاري.
لم يشكل هذا مشكلة بالنسبة لمياه الشرب ﻷنها متوفرة في المتاجر ولكن دورات المياه أصبحت غير قابلة للاستعمال.
يبدو أن عوامل الطرد قد بدأت.
الخميس 9/2/2023 – اليوم الرابع
حزمت اﻷسرة اﻷخرى أغراضها وودعُونا وغادروا المدرسة والمدينة كلها وأخذوا معهم المدفئة الكهربائية وأتى رجل العائلة الباقية بمدفئة أخرى أصغر حجماً وأصبح الجو بعد ذلك في الغرفة أقل دفئاً.
ما شغلني اليوم كان التفكير بما يجب أن نفعله خلال الأيام القادمة .. من بقي من جيراننا في الغرفة سيرحلون في اليوم التالي والبقاء في المدرسة أصبح أمراً صعباً خصوصاً في ظل انقطاع الماء الذي وجدت له حلاً من خلال دورات مياه جامع قريب يبدو أن مياهه تأتي من مياه اﻵبار.
ما شغل تفكيري أيضاً أم وأولادها يأتون الى غرفتنا بحجة الحاجة الى شحن هواتفهم كونهم يقيمون في عربتهم خارج المدرسة وكان رجل العائلة الساكنة معنا قد نبهنا من أخذ الحرص لعلهم قادمون بغرض السرقة.
بمناسبة الحديث عن رجل العائلة اﻷخرى فقد كان يقضي أغلب الليل ساهراً كما كنت أراه في مرات استيقاظي العديدة .. وكنت أستغرب من فعله هذا فالظاهر أنه متعب حقاً خصوصاً أنه يقضي أغلب الصباح نائماً .. اكتشفت بعدها أن بحوزته مبلغ كبير من المال وأنه خائف من أن يتسلل أحد ما ويسرقه أثناء نومه.
كان إنساناً جيداً ومحترماً مراعياً للخصوصية وقد ساعدنا .. جزاه الله خيراً .. في تأمين بطانيتين من مركز توزيع إغاثي قريب.
أبي وأمي وأختي لا يكفون عن الاتصال بي للسفر إليهم وهم مستغربين من سبب بقاءنا في قلب الخطر .. على حد وصفهم .. حتى هذا الوقت.
بحثت عن أماكن لنا في إحدى الحافلات المتجهة إليهم فوجدت بالكاد أربعة مقاعد لنا في ظهر يوم الغد بعد أن قامت شركة النقل بتوفير رحلات إضافية وكان من حسن التوفيق أنني عثرت على الرحلة الاضافية قبل أن تمتﻷ هي اﻷخرى بالمسافرين.
هكذا صار من اللازم أن نحزم الحقائب استعداداً للسفر فاﻷغراض التي بحوزتنا ليس كافية أبداً للإقامة التي لا نعرف أبداً متى ستنتهي لذلك قررت أنا وزوجتي وابنتي الكبرى الصعود للمنزل لهذا الغرض.
كانت تدور في عقلي ذكريات مضت منذ حوالي العشر سنوات … ذكريات ذهابنا الأخير نحو بيتي في سوريا لجلب اﻷغراض قبل سفري اﻷول الى تركيا .. كنت أحاول أن أستوعب اﻷخطاء التي حصلت وقتها بعدم جلبنا لكامل ما يلزمنا ﻷسباب قاهرة عديدة ليست موجودة في هذه المرة والحمد لله.
صعدنا هذه المرة عن طريق المصعد وأيدينا على قلوبنا .. دخلنا المنزل وبدأنا في توضيب اﻷغراض .. كنت قد قررت أن أخذ حاسبي الشخصي معي فوضعت الشاشة بعد أن فككتها في حقيبة مناسبة ووضعت صندوق الحاسب مع الكابلات في صندوق ومن ثم في حقيبة كبيرة .. كان هذا أحد الدروس التي تعلمتها من المرة السابقة ﻷنني لم أكن واثقاً .. في ظل التضخم والغلاء الحاليين .. أن باستطاعتي شراء أي جزء من مكوناته.
وضعنا شاشة التلفاز على الكنبة بحيث لا يصاب بأذى لو حدثت زلازل أخرى ووضعنا بعض الوسائد تحت الثريا الثانية لكي نقلل الخسائر لو سقطت هي اﻷخرى.
وضعنا حوائجنا في الحقائب التي يوجد عددد وفير منها كما يجب أن يوجد عند من تعود على التنقل وتركنا الحقائب بعدها جانب باب الخروج .. كان عندنا الوقت لفعل كل شيء بتركيز مع تجاهل حقيقة وقوع زلزال في أي وقت فلم يكن لدينا ترف التفكير بهذا الخصوص في تلك اللحظات.
أعددنا طعام الغذاء وعدنا بعدها الى الغرفة في المدرسة.
عرفنا في المساء أن المياه قد عادت وأن دورات المياه قد باتت جاهزة للاستعمال.
في الليل بدأ القط توم يموء يريد الخروج والتجول في المكان .. كنت قد قمت بإخراجه من علبته خلال اﻷيام الماضية ووضعه في غرفة صف فارغة مجاورة لنا لفترة من الوقت لكي يستطيع تحريك جسمه والقفز وتشمم الموجودات في فضول، لكن غرفة الفصل امتﻷت بالناس وأصبح من الصعب تأمين مكان مغلق بحيث أستطيع إعادته الى علبته.
بحثت وعثرت على جناح يحوي مكاتب ادارية مزود بباب يعزله عن باقي المبنى .. أغلقت الباب وأخرجت القط توم من علبته وبدأ بالسير والقفز والتشمم .. لكنه بعد ذلك لم يقتنع بتلك المساحة الصغيرة وبدأ يخمش الباب ليخرج وكان معنى فتح الباب له هو اللحاق به في كل مكان وعدم التمكن من إمساكه فمنعته من الاقتراب منه.
الخلاصة أنني قضيت ساعتين على هذه الحالة والساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل وأخيراً اقتنع بأن يعود الى علبته .. عدت الى الغرفة فبدأ مرة أخرى بالمواء فخفت أن يوقظ النائمين وخصوصاً اﻷطفال فخرجت مرة أخرى واتجهت ﻷجلس على كرسي في آخر الممر.
من هذا الصبي الواقف في زواية مظلمة بلا حركة !!؟ .. ما الذي أتى به الى هنا و ….. هفففف
إنه تمثال الصبي الذي يلبس زياً مدرسياً.
جلست لبعض الوقت ثم شعرت بالبرد والتعب فعدت الى الغرفة .. لاحظت أن هناك العديد ممن يأتون من خارج المدرسة ليدخلوا دورة المياه .. أي أن هناك من يدخل المدرسة من غير سكانها وهذا أمر طبيعي في ظل وجود عدد كبير ممن ينامون في عرباتهم الخاصة.
الجمعة 10/2/2023 – اليوم الخامس
استيقظت وفي ذهني أن اليوم هو يوم السفر .. شعرت بالانتعاش برغم تعبي من قلة النوم والاستحمام وقمت لنبدأ جمع أغراضنا.
كنا قد قررنا الصعود جميعاً نحو المنزل لنأخذ جميع مستلزماتنا وننزل الحقائب التي حزمناها البارحة.
حضرت الى الغرفة إحدى ساكنات الغرف المجاورة وأخبرتنا بأنها رأت في الليل إثنان من الشباب يضعان كمامتين على وجهيهما ويحاولان النظر من خلال زجاج النافذة الصغيرة في غرفتنا ولما سألتهم عن ماذا يفعلون اضطربا وأخبراها بأنهما يبحثان عن والدهما المريض ثم غادرا المدرسة بسرعة .. هؤلاء لصوص ولا شك.
هنا عرفت كم هو محق رجل العائلة اﻷخرى في سهره طوال الليل خوفاً على مدخراته .. وحمدت الله بأن شيئاً لم يحدث وأننا مسافرون اليوم.
صعدنا للمنزل وبدأنا بتجهيز الطعام ووضع بقية اﻷغراض في الحقائب .. تأكدت من إغلاق المفاتيح الرئيسية للماء والغاز الطبيعي وأبقيت الكهرباء التي .. بالمناسبة .. لم تقطع أبداً طوال اﻷيام الماضية.
في حديقة المبنى وقفنا ننتظر سيارة اﻷجرة التي أقلتنا نحو مركز الحافلات “اﻷوتوغار” .. تناولنا الطعام الذي أعددناه هناك وبعد نحو ساعة كنا نركب الحافلة التي بدأت التحرك بعدها بدقائق.
مررنا أثناء الطريق على مدينة مرعش .. مركز الزلزال .. كان الظلام قد خيّم وطريق السفر مزدحم طوال الوقت .. مررنا بالقرب من مبنى مهدم بالكامل وفرق اﻹنقاذ تعمل حوله وهناك ضوء قوي مسلط على أحد أجزاءه الخلفية .. صدقني أن مقاطع الفيديو التي تراها على الشبكة لا تعطي الصورة الحقيقية التي هي مرعبة أكثر بمراحل.
وصلنا الى وجهتنا عند الساعة الرابعة صباحاً على وجه التقريب وكان أول شيء فعلته هو أخذ حمّام ساخن .. أول حمّام لي بعد الزلزال.
وأنا أكتب اﻵن ما أكتب وقد مضى شهر ونصف تقريباً على ليلة الزلزال اﻷول .. لا أعرف متى سأعود وعلى الغالب .. والله أعلم .. لن يكون هذا قبل أن ينتهي العام الدراسي ﻷني نقلتُ ابنتاي الى مدارس بالقرب من مكان اقامتي هنا في سيواس حتى لا يضيع عليهم العام الحالي.
أسأل الله أن يتلطف بنا وأن ينجينا دائماً من كل اللحظات الصعبة.
ممتنٌ لأنك شاركتنا تفاصيل عميقة عمّا حدث. لم أكن لأثق بما يظهر على الشاشات لعلمي أن الكارثة أكبر مما نراه بكثير.
كُن بخير أستاذي..
شكراً على تعليقك وكلامك الطيب عزيزي طارق وممتن لك جداً .. ولو وقفنا سوية ستكون أنت اﻷستاذ بالتأكيد.
كان يمكن أن تكون هذه المأساة أكبر إذا كانت في دولة ثانية غير تركياً ليست بها بنية تحتية قوية وأولها الكهرباء والمياه، كذلك توفير الوجبات والخبز
ننتظر أن نعرف ماذا سوف يحدث لهذه البناية هل بها تصدعات، هل سوف يرجع الناس لها أم سوف توفر الدولة سكن بديل
كلامك صحيح ولكن الحمد لله أن كان هناك ما يعين الناس في هذه الكارثة .. بالنسبة لما حدث للمبنى إذا كنت تقصد الذي أقطن فيه هناك فالمبنى سليم والحمد لله وننتظر لجنة الفحص لتؤكد ذلك رسمياً .. وما قصدته أنا بعنوان التدوينة هو تصدعات من نوع آخر وتحديداً ما يحدث للانسان من أحداث مفاجئة بحيث يغير له مجرى حياته ولو لوقت مؤقت طال هذا الوقت أو قصُر.
الحمد لله على سلامتكم ،يبدو الوضع أكثر صعوبة مما شاهدناه على وسائل الإعلام كذلك تأثيرات الزلزال على الوضع خاصة الدراسة و الاعمال والبنية التحتية…أرجو أن تعود الأوضاع بسرعة لطبيعتها
أمين يارب .. الزلازل المتعاقبة أوجدت نوعاً من عدم الاستقرار وهناك الكثير من القرارات المفصلية التي اتخذت بناء عليها.
لا أملك إلا أن أتذكر أيامنا الأولى ونحن هائمون على وجوهنا بعد أن أخرجنا من ديارنا بغير حق. أسأل الله أن يعوضكم خيرًا عما فقدتم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أمين لنا ولكم يا رب .. أسأل الله لنا ولكم الاستقرار واﻷمن