تركيا – منتصف عام 2017 ….
وجدت نفسي أملأ حقيبة السفر وأنا في منتهى السعادة والترقب، كان السبب تلك المكالمة التي تلقيتها منذ يومين من أحد أصدقائي المقيمين في مدينة أنطاكية، وكان الخبرُ أن عملاً ينتظرني في نفس المنظمة الانسانية التي يعمل بها، كانوا بحاجة الى من يحمل الجنسية التركية ولديه خبرة في الأعمال المحاسبية، وكنت أنا من يريدونه.
وصلت الى أنطاكية في الليل وكان بانتظاري ذلك الصديق مع عربة أجرة اصطحبتنا نحو منزله حيث قضيت الليلة عنده وذهبنا في الصباح الى مبنى المنظمة لبدء ترتيبات عملي هناك.
كانت المنظمة تحتل مبنىً كاملاً يقع في أحد الأحياء الجديدة في المدينة، كان المبنى مكوناً من طوابق تحوي شققاً قام كل قسم في المنظمة بأخذ إحداها ليكون مقراً له بخلاف الطابق الأخير الذي كان عبارة عن قاعة كبيرة تم تجهيز أحد أطرافها كجامع صغير والطرف الآخر وُضعت فيه طاولة مع مضارب للعب كرة الطاولة وبعض الألعاب الأخرى.
من بين تلك الشقق التي تملأ المبنى كانت هناك شقة مخصصة للضيوف يطلق عليها بمصطلحات المنظمات اسم ” بيت الضيافة ” والضيوف عادة يكونون من الموظفين الذين يأتون من سوريا لمهام مختلفة أو الموظفين الأجانب الذين تُرسلهم المنظمات العالمية لأغراض التدقيق والتحقق من سير العمل.
هناك نوع آخر من الضيوف هم الموظفون الجدد الذين لا يملكون بيتاً في المدينة التي تقع بها المنظمة وهؤلاء يحق لهم السكن في بيت الضيافة لمدة معينة يبحثون خلالها عن سكن خاص بهم، وكنت أنا ضيفاً من هذا النوع.
بشكل عام كان بيت الضيافة مأوى للضيوف الذين هم بطبيعة الحال مؤقتي الإقامة بين أيام وعدة أشهر.
دخلت بيت الضيافة وبدأت أتأمله، شقة جديدة مفروشة بشكل جيد وهناك صالة بكنبات وشاشة تلفاز كبيرة وكان ملحق بها مطبخ أو كما يسمونه ” مطبخ أمريكي ” بينما كانت بقية الغرف عبارة عن غرف للنوم توزعت فيها الأسرّة وبعض خزانات الثياب والحوائج.
كان البيت خالياً من الضيوف وقتها، وقد أسعدني ذلك لأني لم أشعر بأني غريب وسط أُناس يعرفون بعضهم.
اخترت غرفة وأخرجت محتويات الحقيبة وبدأت في ترتيب أموري، كانت هناك عاملتيّ نظافة تقومان بتنظيف البيت أثناء الدوام عندما يكون .. بطبيعة الحال .. خالياً لذلك لم تشكل أمور التنظيف أي مشكلة.
بدأ توافد الضيوف خلال الأيام التالية، كان بعضهم يأتي لعدة أيام ثم يغادر عائداً لسوريا وبعضهم مثل حالاتي يقيمون بشكل مستمر فيه، أناس من طبائع مختلفة تحتاج للكثير من الصبر والحكمة لكي تتعامل مع بعضهم ولا تحتاج لأي منها مع بعضهم ولحسن حظي كان المقيمون في البيت بشكل مستمر من الفئة الثانية، كانا اثنين تحديداً من مدراء المشاريع ومن دارسي الصيّدلة.
كان بيننا تناغم جميل في أغلب الأمور وخصوصاً في الطبخ بحيث لا يشكل أي مشكلة من طبخ اليوم ومن سيطبخ غداً، كان يوم العمل ينتهي فنخطو بضع خطوات لنصبح في المنزل .. كان هذا رائعاً حقاً .. ومن ثم نبدأ في عمليات شراء المستلزمات والطبخ ومن بعدها الأكل ثم نستريح قليلاً لتبدأ السهرة.
كانت السهرة هي ساعات طويلة من القصص والحكايا والضحكات تارة والفرجة على الأفلام التي تقدمها القنوات الفضائية تارة أخرى مع أكوام من البزر ” اللب ” والبسكويت وأنهار من المياه الغازية.
كان أحدهما قد درس الصيّدلة في روسيا وأقام في السكن الجامعي هناك وكان حكّاءاً من النوع الممتاز ولديه قصص لا تنتهي ومن بعضها استلهمت بعض أحداث رواية ” حكايا رحمي فؤاد “.
الآخر كان على عكسه هادئاً لا يكف عن الابتسام وكان لديه العديد من مشاريع تطوير النفس التي كان يعمل على تنفيذها وقام بذلك فيما بعد ولم تبق حبراً على ورق واستلهمت منه أنا هذه المثابرة، بالإضافة لوجود اهتمامات أدبية مشتركة بيننا، والى الآن نحن أصدقاء ونلتقي بين الحين والآخر على حين أخذت الحياة ومشاغلها الآخر منا للأسف.
كان شعوري في تلك الفترة ايجابياً الى حد لا يوصف، كنت قبلها قد أمضيت سنوات عديدة في منطقة بتركيا لا يتواجد فيها سوريون إلا بأعداد قليلة وبمستويات اجتماعية مختلفة عن مستواي الفعليّ، أي أنني كنت بعيداً عن محيطي الثقافي الطبيعي، إضافة الى أن جميع الأعمال التي عملتها كانت بعيدة كل البعد عن مساري المهني، لن أستفيض في الحديث أكثر وسأحدثك عن العديد من ذكرياتي هناك فيما بعد.
لذلك كانت الأوقات التي قضيتها في بيت الضيافة في أنطاكيا مميزة حقاً وشعرت بأني أعود الى حياتي الطبيعية السابقة في سوريا من حيث المحيط حولي ومن حيث نوعية العمل.
لم تخلُ تلك الفترة من بعض الازعاجات الصغيرة، مثلاً كان هناك من يأتي الى بيت الضيافة باعتباره أحد نزلاءه الأصليين ويتصرف على هذا الأساس بأريحية زائدة تزعج من حوله، وهناك من كان يعتبر موجودات الثلاجة ملكية عامة بحيث كنت أكتشف في أوقات عديدة أن طعام اليوم قد تم الاستيلاء عليه، المضحك أن هناك من يعتبر الحديث بهذا هو أمر مخلّ بالكرم والذي أعرفه أن الكرم هو أن تقدم حسن الضيافة لضيوفك وليس أن يعتبر شخص ما نفسه ضيفاً عليك ويبدأ في التصرف على هذا الأساس.
ثم كانت هناك تلك الأصوات في الليل الصادرة من الضيوف الذين لا يريدون أن يتصرفوا كغيرهم من عباد الله ويناموا في الوقت الذي هو مخصص للنوم، البشر الذين ينتعشون ليلاً ويحيلون نوم الآخرين الى جحيم، الآخرين الذين لديهم عمل في الصباح ولا وقت لديهم للنوم سوى ذلك الوقت الذي هو للنوم اساساً.
كان المشرف على بيت الضيافة موظف صغير السن له اعتبار معين لدى مدير المنظمة ولقلة خبرته في الحياة ولوجود هذا الاعتبار كان يتعامل مع الناس بمنطق متعاليّ لذلك لم أكن أحب التعامل معه لأن هذا المنطق مفيد له في إبعاد أي محاولة للتجرأ عليه بحكم سنه ولكنه بالمقابل أفقده الكثير من العلاقات الاجتماعية التي كان من الممكن أن يكتسبها ويتعلم منها.
الزمن .. بكل الأحوال .. كفيل بأن يعطي الناس الفرصة لكي يصححوا الكثير من المفاهيم والقناعات التي كانوا يعتبرونها من المسلمات بالنسبة لهم.
لم تتجاوز إقامتي في بيت الضيافة في أنطاكيا مدة الستة أشهر، وجدت بعدها عملاً آخر في مدينة غازي عنتاب وانتقلت له ولبيت ضيافة آخر سأحدثك عنه في وقت ما قادم إن شاء الله.
للحق كان من المفترض أن أغادره خلال شهرين على الأكثر ولكن مديري في العمل .. جزاه الله خيراً .. قد عمل على أن أبقى فيه ما دمت عائلتي لم تنتقل بعد الى أنطاكيا.
برغم مرور سنوات على إقامتي به إلا أنه لم يغب عني ذلك الشعور الايجابي الذي صاحب تلك الأيام، الأيام التي كانت بداية مرحلة أخرى من حياتي بعيداً عن سنوات أقل ما يمكن وصفها بأنها كانت رمادية بامتياز.
الصحبة والسهرات والجلسات والأوقات التي أمضيتها مع صديقي صاحب تلك المكالمة التي كانت السبب في فتح هذا الباب الذي خرجت منه من المنطقة الرمادية الى عالم أكثر رحابة، الصديق الذي يغضب ويعاتبني كلما ذكرت فضله عليّ بأن الفضل لله وهذه هي الحقيقة ولكن الانسان منا يتمايز بعمله وبطبيعة الحال الجيد يذكر والسيء يذكر أيضاً.
التعليقات :