قرأت منذ فترة تدوينة للمدون معاذ حول تجربته وانطباعاته عن المذياع وطلب مني أن أكتب عن تجربتي بهذا الخصوص .. والحقيقة أنني لا أحتاج لتوصية بهذا الخصوص لأن هذا من المواضيع التي لا أملّ من الحديث عنها والتي تفتح شهيتي للكتابة بشكل تلقائي :).

أستطيع الزعم أن المذياع شكّل جزءاً لا بأس به من تراثي الشخصي بوصفه الجهاز الذي يملك كامل الصفات اللازمة لكي يصبح صديقاً لك في السهرات الليلية خاصة بعكس التلفاز ولذلك أسباب عديدة منها أن التلفاز كان محدود الاختيارات ففي طفولتي كان هناك قناتين فقط أغلب برامجهما من النوع الذي تفضل أن تطفأ التلفاز على أن تشاهد دقيقة واحدة منها بعكس المذياع الذي كان يمتلك قنوات شتى تبث من دول عديدة ولا يكاد يخلو وقت من شيء ما جدير بالاستماع خصوصاً البرامج التي تبث بأوقات معينة وكنت أنتظرها بصبر كحكم العدالة وظواهر مدهشة وجزيرة المرح.

المذياع جهاز مثير للخيال لأنه لا يفرض عليك أي وجهة نظر بصرية ويكتفي بإعطاءك معلومات صوتية ويبقى عليك تحويل الأحداث الى التي تسمعها الى صورة بصرية في عقلك لذلك ستجد أن كل منا يملك نسخته الخاصة حول تصوره لما يستمع إليه بالاضافة الى أن نمط الصوت نفسه مختلف ولا يشبه تلك الأنماط التي تسمعها عبر خدمات الانترنت ويبدو أن المحطات الاذاعية كانت توظف مهندسي صوت بدرجة فنانين حتى يخرجوا الأصوات بهذا النمط الساحر الذي يضفي لأوقات الاستماع طعماً مميزاً خصوصاً إن كنت في رحلة ترفيهية ما.

الأخبار على المذياع كان لها طعم مختلف خصوصاً تلك التي كانت تأتي من بي بي سي أو إذاعة مونتي كارلو التي كانت تُخرج بطريقة احترافية وكنا نسمع منها الأخبار التي لم تكن تبث في الإذاعات المحلية ومنها أمور كانت تحدث داخل سوريا كموت باسل الأسد على سبيل المثال الذي لم يعلمه الناس إلا من مونتي كارلو.

المذياع كان جهازاً شخصياً أيضاً ومن الممكن أن يتواجد أكثر من واحد منه في البيت بعكس التلفاز الذي كان أغلى ثمناً بمراحل ولأنه كذلك فقد كنت أستطيع استعماله بحرية أكثر لأن جهاز تحكم التلفاز سيكون معك في أوقات محدودة وبخلاف ذلك سيكون من الصعب الاقتراب منه 😉

ماذا حدث هذه الأيام !؟ .. انتقل الناس الى الاستماع الى البودكستات وغيرها من خدمات الانترنت هذا إن افترضنا أن الكل يستمع والحقيقة أن القليل من يفعل ذلك والباقي يعتمدون على المشاهدة أكثر وخاصة بعد أن أصبح متاحاً لأي كائن بشري رفع فيديوهاته الى مواقع التواصل الاجتماعي وبدأنا نشاهد العجب العجاب .. لكن هذه حكاية أخرى.

برغم ذلك لا أعتقد أبداً بأن البودكستات وما شابهها هي بديل حقيقي عن المذياع لأن له خصوصية وكيفية مختلفة .. صحيح أن خدمات الانترنت تتيح لك ما يبدو أنه حرية اختيار وأنها أكثر حرية في طرح المواضيع ولكن ذلك يتم على حساب الجودة والتنوع.

برامج المذياع مصنوعة على أساس الاستماع لذلك تكون المؤثرات الصوتية وطريقة الاخراج ملائمة لهذه الكيفية بالاضافة الى أنها ترتب برامجها بحيث تناسب الوقت الذي تذاع به بخلاف خدمات الانترنت التي عليك أن تختار ما تريد منها بمفردك وهذا سيء على المدى الطويل لأنه من الجيد أن تختار لك جهة خبيرة ومحايدة الأشياء الجديرة بالاستماع.

من طرف آخر وعلى سيرة التنوع .. فالملاحظ أن المسلسلات الاذاعية أصبحت قليلة جداً بعد أن كان لها طنّة ورنة ولولا قنوات اليوتيوب التي تحاول تغطية ذلك الفراغ الواسع لانقرضت تقريباً وبقيت الساحة للبرامج السياسية فقط .. أقول هذا حتى لا يفهم من كلامي أني أنظر لمحتويات الشبكة على أنها شرير هذا الفيلم 🙂

المقارنات السابقة للأمانة كانت بين إذاعات زمان وبين خدمات الانترنت الحالية لأن ضعف الاهتمام الحالي بالاذاعات تسبب في انخفاض جودتها الى حد ما.

ما أريد قوله في النهاية أن لا مجال للمقارنة بين محتوى الشبكة من بودكاستات وغيرها وبين الاذاعات لأن لكل منها هوية وكيفية مختلفة مهما بدا أنها تحقق نفس الهدف.

أعود وأقول مرة أخرى .. المذياع جهاز له خصوصية ولا يشبهه شيء ولا أعدّه من الأشياء المنقرضة ولا يقوم بمقامه أي شيء آخر.