قبل أن أبدأ حديثي أريد أن أنصحك النصيحة التالية : لا تأجل أي شيء تحب فعله أو يجب عليك ذلك من أجل مصلحتك أو لأسباب مختلفة الى يوم آخر أو فرصة أخرى .. تلك الفرصة أو ذلك اليوم الذي تتخيل أنه سيأتي لن يأتي في الغالب قط.
حكت لي ابنتي منذ أيام أن الآنسة في مركز الأنشطة الاجتماعية التي تذهب إليه لعدة مرات في الأسبوع طلبت منهم أن تقصّ كل واحدة منهن عليها تجربة شخصية حزينة تعرضت لها في وقت ما.
بدأت الفتيات بالحكي .. كانت هناك قصص قليلة الحزن أو لنقل من ذلك الذي نعتقد لأسباب شخصية أنه حزن كامل الدسم وهو ليس كذلك … وكانت هناك قصص ترقّب سوداء ولكن نهاياتها باسمة وكانت هناك قصة معينة جعلت الفتيات مع الأنسة يغرقن في بكاء طويل.
والذي حدث أن راوية القصة كانت تجلس في التروماي عندما صعدت إحدى صديقاتها السابقات وجلست على مقربة منها .. وكما تعلم وفي مثل ذلك السن هناك الكثير من الأسباب التافهة غالباً والتي تجعل الأصدقاء يكفون عن كونهم كذلك.
فكرت راوية القصة بأن تذهب وتتحدث مع صديقتها السابقة ولكن التردد فعال جداً في هذه الظروف وقبل أن تفعل شيئاً حقيقياً نهضت صديقتها ونزلت من التروماي .. وبعد أسبوعين تقريباً غادرت الحياة كلها.
وأنهت ابنتي الحكاية مع عبرات متبقية لم يتسن لها على ما يبدو أن تسقطها في حينها.
الواقع أن هذه الحكاية أيقظت لدي ذكرى قديمة مشابهة متعلقة بصديق لي لكن من دون أن يكون بيني وبينه أي خلاف.
أعتقد أن ما حدث قد حدث نهاية عام 1998 وفق ما أذكر .. كنت قد انتهيت من امتحانات البكالوريا وبدأ بعدها صيف لا يشبه الأصياف السابقة .. الصيف الذي انتهى بأيام الجامعة.
وكما لك أن تعلم أو ربما ستعلم في وقت ما .. في ذلك الوقت تنتهي صداقات عديدة لا لسبب سوى أن مكان نشوء تلك الصداقات ومكان حياتها لم يعد متاحاً .. وأنا أقصد هنا مقاعد المدرسة وباحاتها.
صداقات تموت وصداقات ستولد في وقت قريب .. ليس جميعها بالطبع .. هناك صداقات ستبقى ولكنها من ذلك النوع القليل طويل العمر .
وكانت صداقتي ببلال من تلك النوعية .. صداقة رافقها أحداث وذكريات من الصعب أن تنسى ولن أستطيع حصرها في تدوينة واحدة.
بعد أسابيع قليلة تحدثت معه على الهاتف ووعدني أنه سيزوني في يوم معين لأنه سيسافر الى دمشق بعدها لكي يكمل دراسته هناك في أحد المعاهد الشرعية .. كان القرار مفاجئاً لي ولم يكن بلال قد حدثني عن هذه النية من قبل.
والذي حدث بعدها أنني نسيت الموعد وذهبت في ذلك اليوم الى مكان ما .. لم يكن مشواراً هاماً وأغلب الظن أنه كان تافهاً أيضاً .. الأمر شبيه بمن تمت دعوته على عشاء فخم وخرج في يوم العشاء ليأكل وجبة بائسة في مطعم غير نظيف وقضى ليلته في المرض والقيء.
كنت غاضباً بشدة من نفسي عندما علمت أنه أتى وطرق الباب ولم يجد أحد .. على أنني عالجت المسألة بيني وبين نفسي بأنه سيأتي لاحقاً في زيارة وسأراه عندها.
سافر بلال في اليوم التالي وقضى وقتاً لا بأس به في دمشق وانشغلنا في مجريات حياتنا الجديدة الى أن علمت أنه توفى.
الواقع أن كلمة توفى ليست دقيقة هنا بالمرة .. هو قتل .. قال لنا أباه عندما ذهبنا لتعزيته أنه كان يمر من أحد الفنادق في العاصمة عندما أطلق عسكري غاضب النار عشوائياً على الناس .. أصيب صديقه فحمله وركض به لتصيبه رصاصة قاتلة ويسقط أرضاً بلا حراك.
وأنا لم أسامح نفسي أبداً عما جرى .. انتظرت يوماً لم يأت قط .. لو تعاملت مع الأمر بمسؤولية لما ظلت في نفسي تلك الندبة التي لم تلتئم أبداً طوال هذه السنوات الطويلة .. لو كنت فقط تصرفت كما يجب والتزمت بالموعد.
لذلك يا صديقي لا تفكر أبداً بأن تسوف على اعتبار أن هناك دائماً متسع من الوقت وفرص أخرى .. الفرص بطبعها لا تكرر نفسها ولا تأتي مرة أخرى إلا نادراً .. خصوصاً فيما يتعلق بالأصدقاء والأحباء.
هذا محزن، والأحزان للأسف تجر بعضها، والقصص الحزينة تستدعي بعضها بعضًا.
ما فهمته من هذه القصة، أنه من الأفضل التصرف فورًا وعدم التسويف، لتجنب الندم لاحقًا، وسيناريو: ماذا كان ليحدث لو فعلت كذا، أو كذا.
شكرًا لك على مشاركة هذه التدوينة، وبانتظار حكاياك مع المذياع 🙂
نعم .. غالباً لن تأتي ظروف أفضل من ظروفك الحالية من جهة ومن جهة أخرى علينا ترتيب الأولويات واختيار ما هو مهم حقاً بالنسبة لنا .. سأكتب تدوينتي عن المذياع قريباً إن شاء الله 🙂