صورة العدد : جانب من مائدة رحلة Yumurtalık 

مرحباً بك يا صديقي ….

الحرارة تنخفض وأنا مبتهج لذلك .. الشتاء قادم وهو أرحم من الصيف بشرط أن تمتلك وسيلة تدفئة مناسبة.

أقف في الشارع الذي صار يمتلك نسمات رحيمة تهب باستمرار .. أصبح الوقوف في الظل أمر له جدوى والبرودة اللذيذة التي تدفعك لتناول شوربة العدس مع الصمن التركي قادمة.

المدارس بدأت منذ بداية الاسبوع والشوارع والمواصلات .. لذلك .. أصبحت أكثر ازدحاماً .. أزياء المدارس هنا في تركيا مبهجة ومتنوعة إذا قارناها بذلك الزي العسكري الذي كنا نُجبر على ارتداءه في سوريا.

تساقطت بعض الأمطار وهبت رائحتها المنعشة التي تنبه السائقين بأن يكونوا أكثر حذراً من طرق قد يجعلها تراب الصيف الذي تحول الى طين زلقة وخطرة.

الخريف يلوّح بكلتا يديه والبرودة تنتشر .. وأنا أشعر بالبهجة.

مرحباً بك مرة أخرى.

إيحاء …

كنت جالساً وقتها على مكتبي أُنهي بعض المهام عندما انتابني ذلك الخاطر.

الحقيقة أنه لم يأت هكذا عشوائياً أو من باب المصادفة ..

الأمر بتعلق بمشهد رأيته يتكرر أمامي على مدى عدة أيام .. تكرر لدرجة سمحت لذلك الخاطر الخبيث بالتسلل الى عقلي وإغرائي بفعل ما فعلته.

الحكاية تتعلق بإثنان من زملاء العمل .. الأول .. لنسمه نبيل .. يمتلك حساً فكاهياً ولا يكف عن المزاح .. الثقيل في أغلب الأحيان .. والآخر .. لنسمه جميل .. يحب أن يلعب دور الهادئ الوديع الذي يحاول الحفاظ على مخزون الاحترام لديه خوفاً من أن يطيره أي شخص يقوم بالمزاح معه أمام الآخرين … والحقيقة أن جميل البائس لا يمتلك أي أداة فعّالة تكفل له المحافظة على مخزون احترامه لذلك كان يقع باستمرار في براثن أصحاب الدم الخفيف أو الثقيل الذين يجدونه هدفاً سهلاً لرشاقتهم البلاغية.

لكن .. هذه المرة كان الوضع مختلفاً .. زمان كان نبيل يكتفي ببعض المزاح مع جميل كل فترة وأخرى وكان جميل .. كعادته .. يتحمله على مضض ولا يرى داع لإثارة المشاكل وهو بكل الأحوال يشك في كونه يستطيع إثارتها لذلك كان يبتسم في وداعة ويسكت .. هكذا كانت الأمور تمضي بسلام.

حتى جاء ذلك اليوم الذي وجّه فيها نبيل لجميل مزحة معينة ثم بدأ يضحك في استمتاع .. أنت تعرف ذلك النوع من البشر الذي يضحك على النكت التي يقولها قبل أن يضحك من حوله .. هذا إن ضحكوا أصلاً.

وكالعادة .. ابتسم جميل في وداعة وسكت .. ومضى اليوم.

على أن اليوم التالي كان يحمل مفاجئة صغيرة .. نبيل قد أحب مزحة البارحة على ما يبدو لأنه أعادها مع وضع بعض اللمسات الفنية التي جعلتها أثقل دماً من السابق .. ابتسم جميل ابتسامة باهتة وسكت.

وجاء اليوم الثالث وكرر نبيل نفس المزحة الثقيلة .. وابتسم جميل ابتسامة أكثر شحوباً وسكت.

هذه المرة بالذات كان هناك شخص في الغرفة لم يسكت .. وهذا الشخص هو أنا .. وأنا لم أسكت لأنني في تلك اللحظة كنت على موعد مع ذلك الخاطر المغري كعجوز لعوب تتمايل على تيك تيوك لعلها تحظى ببعض المكاسب.

تجاهلته في البداية وكبرت رأسي فتضخم هو الآخر وبدأ يلح علي وهو يلهث بصوت مزعج قائلاً :

هكذا وقفت واتجهت في هدوء نحو جميل وقلت وأنا ابتسم بمودة:

نظر لي في دهشة مردداً :

هز رأسه وقد بدأ يتذكر فقلت له في استمتاع :

هز رأسه ببطء بينما استدرت وعدت الى مكتبي بهدوء وكأن شيئاً لم يكن.

وتكرر المشهد بحذافيره خلال اليومين التاليين .. نبيل يوجه المزاح لجميل وجميل يبتسم .. أقصد يحرك وجهه فقط محاولاً الابتسام وأنا أذهب وأذكره بتلك الحلقة من بقعة ضوء وأعود الى مكتبي بوداعة.

اليوم الثالث كان يوماً مجيداً بحق .. لأن جميل قفز بمجرد أن سمع المزحة إياها من نبيل وبدأ يصيح بوجهه واللعاب يتطاير من فمه وكان على وشك ضربه لولا أبعدناه عنه .. الرعب الذي شعر به نبيل كان غير مسبوق لأنه تجمد ولم يعد يستطيع الحركة لدقائق .. بالنسبة له كان ما رآه نوعاً من الخيال العلمي .. جميل الذي تحول الى ديناصور وأوشك على افتراسه .. لذلك تظاهر بانشغاله بقضية خارجية وتسلل هارباً من المكتب.

وأنا عدت الى مكتبي ناظراً بعين الخيال الى تلك الخاطرة التي كانت تغادر عقلي بضحكة عالية ..

بيني وبينك .. لم أجرؤ على إعادة تلك التجربة مرة أخرى مع أي أحد.

الايحاء مرعب حقاً وفعل أصيل من أفعال الشياطين.

حكمة العدد

هناك نوع من البشر لا أنصحك بتوجيه أي نصيحة له مهما أخذت من التدابير لكي لا تجرح إحساسه .. والذي سيحدث عندها أن إحساسك هو الذي سيجرح .. لذلك كبر مخك وتجاهله.

تحية العدد

تحية الى من تتطابق أحاديثه مع أفعاله .. هنيئاً لك .. أنت كائن موشك على الانقراض.


كانت هذه نهاية حديث اليوم من أحاديث الشُرفات .. الأوقات الجميلة غالباً ما تمضي بسرعة .. مرحباً بك دائماً هنا وبانتظارك دوماً يا صديقي.