مرحباً بك يا صديقي …

بين الحين والآخر أعود لأتفرج على بضع حلقات من مسلسل ضيعة ضايعة بجزئيه .. هذا يحدث كل فترة وأخرى ومع ذلك اكتشف أن هناك حلقات لا أتذكر أحداثها ولا نهايتها.

هذه إحدى ايجابيات النسيان الذي يسببه تراكم الأحداث والأمور والهموم مع التقدم في العمر بحيث تستطيع إعادة تذوق الأشياء الجميلة التي حسبت أن الملل قد أصابك منها .. يقولون أن شركات المياه الغازية تضيف مادة لغسل الطعم من حليمات اللسان بحيث تشعر في كل مرة تشرب فيها من زجاجاتهم بأنها أول مرة .. هذا أمر مشابه لحد ما.

المسلسل جميل فعلاً .. بالنسبة لي على الأقل .. وأعتقد أن الكاتب وضع في أحداثه جزءاً كبيراً من تصوراته حول أمور كثيرة تتعلق بالمجتمع والسياسة وأحوال الناس في سوريا.

الأحداث والقصص كُتبت بقالب ساخر وفي كل مرة أتابع حلقاته أكتشف كلمات عابرة وضعها في الحوارات لها معاني كبيرة انطلى بعضها على هيئة الرقابة نفسها .. هذا هو التفسير الوحيد الذي خرجت فيه والذي يبرر كيف سمحوا لها بأن تمر.

المسلسل صنع في نهاية العصر الذهبي للدراما السورية .. العصر الذي انتهى منذ سنوات وبدأت بعدها التفاهة والتشويه والانحطاط الأخلاقي بالدخول للساحة لدرجة أن أكثر المسلسلات المنتجة خلال العشر سنوات الأخيرة لا تستحق وقت الفرجة وأخجل حتى من أن أتابعها أنا ناهيك عن أن يراها من هو أصغر في السن .. هذا أمر طبيعي لأن عصر التظاهر قد ولى ولم يعد هناك داع لمجاملة الناس.

توموفوبيا

عندما وجد توم الباب موارباً أمامه توقف وهو ينظر بدهشة وجمود باتجاه المشهد الضيق الظاهر خلف الباب ..

كان قد تعود منذ فترة طويلة على القفز والتعلق بمقبض الباب ثم النزول وتفحصه .. مضت فترة طويلة على ذلك لدرجة أنه نسي لماذا يفعل ذلك أساساً.

لكن .. الهواء القادم عبر شق الباب المحمل بروائح مختلفة يغريه بالعبور ..

الحقيقة أنه عبر حقاً وأخذ يتشمم الهواء في الخارج بعمق .. وببطء بدأ يتذكر كل شيء ..

في زمن سابق كان يخرج بشكل يومي ويتجول عبر الأدراج الطويلة .. يراقب ويتفحص ويشم رائحة كل شيء ويهرب عند سماع أي صوت أو يلمح أي حركة من تلك الكائنات المتوحشة.

والذي حدث بعدها أنه شعر بوجع كبير في صدره وفي وقت ما بدأ سائل أحمر كريه بالتدفق من مكان الوجع … وضعته العائلة في علبته وأخذته الى ذلك المكان المليء بروائح منافسيه وتلك الكائنات المتوحشة التي كانت تمسكه ولا تكف عن غرس أظافرهم بجسده برغم عوائه ومحاولته الجنونية للتملص منها بأسنانه ومخالبه.

عاد للبيت وبدأت الأمور بالتحسن لكن الباب لم يعد يُفتح قط ولم يعد يُسمح له بالاقتراب منه .. نسي بعدها كل شيء وبقية ذكريات غامضة عن باب من الواجب أن يحاول فتحه كلما أمكن ..

لماذا !؟ .. يبدو أنه عرف الآن أخيراً السبب .. ذلك العالم المليء بالروائح والأعداء .. هذه مغامرة ممتازة حقاً.

ولكن !!؟ .. يبدو أن الأمور تغيرت بشكل كبير ومرعب .. الضجة لا تكاد تتوقف وأصوات الصراخ وروائح الطعام الكثيرة الثقيلة .. نزل مسرعاً عبر الدرج باحثاً عن باب يؤدي لتلك المنطقة الخالية الذي اعتاد على الاختباء بها ولكن الأبواب كانت مقفلة ولا مفر من نزوله أكثر عبر الدرج.

ومع نزوله كانت الأصوات والروائح تزيد وبدأ شعوره بالذعر ينمو وجسده ينتفش أكثر .. وجد في إحدى الزوايا باباً مفتوحاً فأسرع إليه ولكن .. في نفس الوقت .. كانت إحدى تلك الكائنات المتوحشة تقترب منه وهي تصرخ فنفخ بخوف وركض بعدها عبر الباب المفتوح وأخذ يصعد الدرج عائداً لمنطقته.

الأصوات والروائح لا تتوقف عن التصاعد وجسده لا يتوقف عن الانتفاش ..

في إحدى زوايا الدرج رأى إحدى تلك الكائنات إياها يحاول الاقتراب منه .. هذه رائحة واحد من العائلة ولكن من يملك ترف التأكد بعد كل هذا .. لذلك اقترب منه بسرعة وضربه بيده ثم تابع ركضه نحو منطقته.

بدأ يسمع أصواتاً ويشم روائح صديقة .. بعد دقائق كان داخل منطقته يلعق جسده ويتمدد على الأرض في رضا.

هذا ما حدث بالنسبة لتوم .. أما بالنسبة لي فكان الأمر مختلفاً لحد ما.

بعد تلك المرة التي عاد بها بخرّاج كبير في صدره انفتح فجأة لينساب منه دم فاسد رائحته كريهة جداً .. ذلك اليوم الذين أخذناه الى عيادة بيطرية ونظف له الطبيب الخرّاج بعد أن هاج وماج وعضّ الممرضة من يدها بسرعة وبدأت الدماء تنساب من يدها من دون أن تستوعب هي نفسها ما حدث.

تأمله الدكتور البيطري وتمتم في دهشة عن كيفية استطاعتنا تربية ذلك الغاضب المتوحش في البيت .. ثم نصحنا بشدة بعدم السماح له بالخروج .. هذا قط يريد أن يكون لوحده في المبنى من دون أن ينازعه أي قط آخر .. هذا سلوك معتاد عند بعض القطط وبعض البشر بكل الأحوال .. لكن المشكلة هنا أنه يعود وقد أصاب نفسه بإصابات خطيرة حقاً.

النتيجة أننا لم نعد نسمح له بالخروج فعلاً .. ولكن وكما تعلم وكما كان يقول أدهم صبري : لا يوجد نظام أمني خال من الثغرات .. وجاء وقت نسينا فيه اقفال الباب ليفتحه وينسل هارباً.

هذه المرة لم أستطع تجاهل الأمر وأسرعت ورائه لأعيده .. كان مشهد ورائحة الدم المتدفق وذلك المبلغ الكبير الذي دفعته لذلك الدكتور النصاب في العيادة قد جعلاني أستوعب الدرس جيداً.

لكن .. أين سأجده !!؟ .. أنت تعرف سرعة القطط وموهبتهم في الاختفاء .. كان الوقت قبل الافطار بساعة في أحد أيام رمضان الماضي وسكان المبنى وضيوفهم لا يكفون عن الدخول للمبنى وإصدار الأصوات فضلاً عن روائح الطعام التي انتشرت خلاله.

اتجهت لدرج الانقاذ وبدأت أنزل بسرعة وأنا أحاول النظر من خلال فتحات الدرج عليّ ألمحه ..

آآآآه .. ها هو ذا .. لأقترب منه قليلاً لأقنعه بالعودة الى المنزل و …. نظرت له بحذر .. جسمه منتفش وعينيه ضيقتان .. يبدو أن أحد ما قد أخافه و …. أخخخ ..

لم أفهم ما جرى بالضبط .. قبل ثانية كان على مقربة مني وبعد ثانية كان قد ضربني بمخلب يده وتراجع مهدداً.

هذا هو الوقت المناسب للاصابة بالتوموفوبيا خصوصاً بعد أن بدأ الدم بالسيلان مغطياً بقعة لا بأس بها من قدمي.

تراجعت وأنا أفسح له المجال للمرور .. ومر فعلاً بعد أن نفخ مهدداً مرة أخرى.

تبعته ببطء محاولاً أن أبقي مسافة آمنة بيني وبينه .. بيني وبينك لم أكن متأكداً من أنه لن يعود ليضربني بمخلب يده الأخرى هذه المرة ..

لكن عندما وصلت للبيت كان مستلقياً في زاوية المدخل يلعق جسده الذي مازال منتفشاً الى حد ما.

تنهدت وأوصيتهم مرة أخرى بالتأكد الدائم من إيصاد الباب.

هل أداعب ذقنه ورأسه كما أفعل دائماً ؟

لا .. لننتظر حتى تذهب أعراض التوموفوبيا على الأقل.