مرحباً بك يا صديقي …

في الصباح .. وتحديداً في أيام العطل بعد أن أفرغ من الافطار .. أحب أن أجلس في المطبخ لأسمع صوت الصمت .. قد يخيل إليك أن هذه هي أحد العبارات المتفزلكة التي يهوى البعض قولها ليعبر عن مدى العمق الذي وصل له تفكيره .. غالباً هو وصل لعمق كبير حقاً لدرجة بدأ فيها بالهلوسة كنتيجة لأعراض نقص الأكسجين.

لكني أعني ما أقوله .. الصمت هو الآخر له صوت .. تلك الأصوات الخافتة والتي لا تسمعها إلا بعد أن يسكت من حولك ذلك الضجيج المألوف الذي اعتدت على سماعه حتى الملل.

أصوات العصافير وحركات الهواء وتلك الأصوات الغامضة التي لا تعرف كنهها بالضبط .. كأنها أصوات موجودات الدنيا وهي تتكأ على بعضها البعض لتراقب بتركيز أكثر حماقات البشر.

أصوات متعددة تشعرك بالاطمئنان بأن الدنيا مازالت تعمل بكفاءة برغم جميع المحاولات .. التي تنجح أحياناً .. في جعلها تكفّ عن ذلك مضطرة .. لكنها تكفّ لوقت محدود .. مهما حسبناه طويلاً .. لتعود مرة أخرى لضجيجها وايقاعها الصامت برغم أنف القتلة ولصوص الأرض.

مرحباً بك مرة أخرى …..

هكذا تكلم فيصل القاسم

سمعت بودكاست الدكتور فيصل القاسم في ضيف شعيب الاسبوع الماضي .. البودكاست طويل حقاً لذلك سمعته على أجزاء .. كنت أريد أن أسمع شيئاً خلال قضاء بعض الأغراض ولاحظت أنه حصل على مشاهدات كثيرة في وقت قياسي وانتابني قليل من الفضول الذي دفعني لضغط ذلك الزر .. والذي حدث بعدها أنني قضيت أكثر من نصف الوقت وأنا في غصّة ودموع.

وبغض النظر أن طفولتي ونشأتي لم تكن كتلك الأوجاع التي سردها فيصل القاسم إلا أنني مررت بظروف مشابهة في وقت آخر .. مشابهة وليست مماثلة للأمانة لأن ما مر به دكتور فيصل كان أمضّ وأطول زمنياً.

أعاد لي كلامه تلك الذكريات المؤلمة بالنسبة لي .. لكن بكل الأحوال وبوجود تلك الذكريات من عدمها كان كلامه مثيراً للحزن ومعبراً عن كثير من المجهولين الذين عاشوا ويعيشون في سوريا وغيرها.

فيصل القاسم بمقابلته هذه أسدى معروفاً لنفسه ومعروفاً لنا .. المعروف الذي أسداه لنفسه هو أن كلامه العلني عن أوجاع الماضي يخلق حالة من التشفي في النفس بخاصة بعد انقضائها بأحوال أفضل بمراحل .. هذا نوع من التنكيل بالذكريات المؤلمة.

والمعروف الذي أسداه لنا هو أنه أخرج نفسه من دائرة كونه مجرد مقدم لبرنامج مشهور لكي يكون رمزاً هاماً ومحفزاً لكثيرين خاصة مع تلك البساطة والتواضع المدروس الذي قدم من خلاله نفسه للناس كشخصية بعيدة عن تلك الشخصية التي كنا نراه فيها من خلال الاتجاه المعاكس .. الشخصية العصبية التي لا تكف عن الصراخ واستفزاز الضيوف والتي تخفي ورائها شخصية هادئة تمتلك ما يسمع من الكلام .. شخصية ذكية تعرف من أين تؤكل الكتف.

ولكي لا تظن أنني أحاول تمجيده فأنا أدرك تماماً أن لكل انسان عيوبه وهو لا يخلو منها .. كونه انسان بالنتيجة .. وأنا لست مع كل ما يقوله وينشره خصوصاً في حسابه على تويتر.

استمتعت بالمقابلة جداً وأعطتني جرعة تحفيز كبيرة .. وإذا كان هذا كل شيء فهو كاف وزيادة.

لنفتح الأقفاص الفارغة

فرغت البارحة من قراءة كتاب أقفاص فارغة للشاعرة فاطمة قنديل .. الكتاب يقف في الوسط ما بين الرواية وبين المذكرات .. لنقل أنها حوّلت من حولها الى شخصيات قصصية وكتبت مذكراتها على شكل رواية.

الكتاب ممتع حقاً وشدّني من أول صفحة كما يقولون .. مليئ بالأحداث الصعبة والحزينة لأسرة من الطبقة المتوسطة ويغطي تلك الفترة من ستينيات القرن الماضي وحتى السنوات القليلة المنصرمة حديثاً .. أسرة كانت حياتها بعيدة عن مظاهر ومضمون التدين إلا من فترة محدودة تتعلق بحياة شخصية واحدة وهي شخصية الأم.

وأنا كرهت الأخوين حقاً .. راجي ورمزي .. كرهت الأول أكثر .. شخصية أنانية عديمة المسؤولية والأخلاق .. الأمر اللافت للنظر هو أنه في كثير من الأحيان يتم ارجاع سبب هذه الصفات السلبية الى العقد والأمراض النفسية .. والأمر أبسط من ذلك .. هم فعلاً شخصيات أنانية عديمة المسؤولية والأخلاق ولا دخل للأعراض النفسية بما حدث .. لعب دور الضحية في كل مرة أمر يثير الغيظ حقاً.

الجميل في الكتاب أن كاتبته ابتعدت عن التأريخ السياسي بشكل كبير ولم تذكره إلا للضرورة .. أغلب الكتّاب لديهم هوس بتلك الأحداث التاريخية .. خصوصاً السياسية .. التي وقعت خلال حياتهم وكأنهم يريدون إعطاءه أنفسهم أهمية ما بلصقها بتلك الأحداث.

وأنا أرى أن هذا مطلوب أحياناً ولكن من ناحية تصويب تلك الأحداث وتنقيتها من التزوير الذي يطرأ عليها باستمرار .. ولكن أن يتم اعتمادها والتمسّح بها !! .. فهذا شيء آخر.

الأمر الآخر الجميل هو أسلوب الكتابة الساحر .. ومع أن فاطمة قنديل هي شاعرة بالأساس فقد كتبت هنا بأسلوب قصصي غير اعتيادي وأنا أتسائل عن تلك الروايات التي لم تخرج للحياة والتي كان من الممكن أن تكتبها.

أسلوب الكتابة الذي راقبته بتمعن لأكتشف أسباب جماله .. لم تكن الحكاية متعلقة باللغة نفسها بل بقدرتها على الحكي وعلى ربط الأحداث وانسيابها بطريقة مثيرة للإعجاب .

بقيت لدي كلمة واحدة بهذا الشأن .. هناك العديد ممن ينشرون تلك الصور التي تُظهر نساء من دون غطاء رأس وثياب لا تنسجم مع الحشمة .. التي تقل باستمرار مع الأسف .. ويتحسرون بعدها على تلك الأيام المتحضرة البيضاء التي ولّت وأتت بعدها أيام الظلام .. لمراهقي الرغبات وغريبي الأطوار أولئك أهدي كتاب الأقفاص الفارغة.

هذا كل مالديّ الآن.

الأوقات السعيدة عادة ما تنتهي بسرعة.

سعدت بلقاءك اليوم وأنتظر زياراتك دائماً.

الى لقاء آخر.