أنا من ذلك الجيل الذي كان ينتظر بصبر ويقرأ بنهم سلاسل الأعداد المختلفة التي كانت منتشرة في أيام طفولتي وشبابي المبكر.
المغامرين الخمسة .. الشياطين الثلاث عشر .. ما وراء الطبيعة .. رجل المستحيل .. ملف المستقبل
وغيرها من السلاسل التي أعتقد أنك قرأت بعضاً من أعدادها أو سمعت بها على أقل تقدير.
في أوقات مختلفة كانت تصدر أعداد خاصة من تلك السلاسل .. أعداد مميزة بعدد صفحات أكثر أو بقصص مثيرة خارجة عن التسلسل الزمني الخاص بالسلسلة.
وأنا كنت أحب هذا النمط من الأعداد لأنها برغم قلة صدورها كانت تشكل علامة فارقة تعزز السرد العامة للسلسلة وأحياناً كانت تستكمل رسم شخصياتها الرئيسية بتكلمها عن بداياتها مثلاً أو مغامرات لها فوق العادة.
لذلك أحببت أن أكتب أنا أيضاً أعداداً خاصة .. من الممكن أن يبدو كتابة أعداد خاصة في مدونة فكرة طريفة أليس كذلك؟😁
لكن لا تنسى أن مدونتي هي في الحقيقة مجلة مقسمة الى العديد من الأقسام وهذا يعطي خصوصية إطلاق كلمة عدد على محتويات كل قسم ولا تنسى أن أحاديث الشرفات هي تدوينات مرقمة أي أنها أعداد ضمن سلسلة .. وما دامت هناك أعداد اعتيادية فلا مانع من وجود أعداد خاص لها بين الحين والآخر.
خطرت لي هذه الفكرة أثناء استماعي لحكاية قصها لي أحد المعارف عن حادثة صغيرة حدثت معه .. عندها خطر لي سؤال عن كيفية توارد أحداث ما قاله لي لو كان قد حدث معي أنا أو لو كتبت ما جرى بأسلوبي ؟ .. هكذا بدأت الفكرة بالتكون في ذهني.
سأخذ حكايته وأعيد سردها بأسلوبي أنا .. وسأفعل ذلك كلما سمعت ما يستحق .. وأنت تعلم يا صديقي أن الأمر نسبي لذلك لا أعدك أن يكون كل ما أكتبه في الأعداد الخاصة مسلياً .. الواقع أنني لا أستطيع إعطاءك هذا الوعد سواء أكان ذلك في الأعداد الخاصة أو في غيرها 😇
فكرت أن أفعل ذلك في قسم المصطبة ولكن في النهاية قررت أن يكون في أحاديث الشرفات .. تخيلت أنها جلسة معك على شرفة واسعة في أحد مساءات الربيع المنعشة العابقة برائحة الأشجار الطازجة .. تلك المساءات التي تزداد شهية الحديث فيها.
وقد أفعل ذلك في المصطبة ولكن .. بالطبع .. ستكون لها فكرة أخرى.
الآن يا صديقي سأقص عليك حكاية حدثت مع غيري في الواقع ولم تحدث معي .. ولكنها النسخة الخاصة منها لو تخيلنا أنها حدثت معي شخصياً أو لنقل النسخة الخاصة من تصوري لها .. وأرجو أن تجدها مسلية.
سأبدأ الآن في العدد الخاص الأول من أحاديث الشرفات.
ليلة التشيس كيك
هواء آخر الأيام الشتاء الأقل وطئة .. ذلك الهواء الخفيف البارد الذي يتظاهر بكونه منعشاً .. المخادع غالباً والصادق أحياناً.
وأنا أقف أمام باب المبنى أتأمل الشارع الخالي وأفكر في المشوار الذي أرغمت نفسي على قضاءه.
أعتقد أن خالد يستحق ذلك بعد كل هذا الوقت.
كنا قد أتينا الى تركيا سوية هرباً من احتمالات الموت التي امتلأت بها مدينتنا وتعبنا كثيراً حتى استطعنا إيجاد بعض ملامح حياة مستقرة .. لكن ومع الأيام لم يبد أن خالد قد تقبل تلك الملامح .. كان يخبرني دائماً بأنه يخشى أن تتحجر تلك الملامح على ما صارت عليه ويصبح من الصعب تغييرها أو اتخاذ موقف جاد إزاءها.
لذلك كان قراره بالهجرة نحو ألمانيا حاداً ومتحجراً هو الآخر لدرجة لم أستطع أن أزيله من عقله .. الحقيقة أنني حاولت ذلك بإخلاص قبل أن أكتشف أن محاولاتي قد تؤدي لقطيعة بيني وبينه وهذا ما لم أكن أريده بأي حال من الأحوال.
لذلك استسلمت في نهاية الأمر ووقفت أراقبه وهو يلملم حاجياته القليلة ويتأكد من أنه لم ينس شيئاً من تلك الأكبال الكهربائية التي تملأ حياتنا بأكبال فوق أكبالنا التقليدية .. ودعني بدموع حارة ثم رحل.
ومرت بعدها أيام عسيرة قبل أن يخبرني بأنه اجتاز الحدود .. بلا خسائر حقيقية .. وأنه أصبح في أمان.
هكذا صرت أتابع أخباره بشكل يومي ثم بشكل متقطع قبل أن تصبح مكالماتنا شهرية أو بأفضل الأحوال نصف شهرية.
واتصل بي منذ أسبوع ليخبرني أنه قادم في إجازة لتركيا وأنه سيقيم في بيت عمه الخالي وأنه ينتظر زيارتي.
وجدت نفسي بعدها مرغماً على مغادرة البيت والذهاب لتلك الزيارة.
هو يعلم جيداً أنني أكره التنقل والتسكع وأن الجوع وحده هو الذي يرغمني على الخروج والبحث عن شيء يؤكل .. ما الذي كان سيحدث لو جاء ذلك الأحمق لعندي بدلاً من إجباري على الخروج !!؟
هززت رأسي محاولاً إطفاء تلك الأفكار وأسرعت للحاق بالمترو …..
عناق حاد وضحكات وقبلات ثم الجلوس حول طاولة قرب النافذة.
تركني وغاب لفترة ثم عاد ووضع أمامي طبقاً صغيراً من التشيس كيك مع كأس من العصير ثم جلس أمامي وبدأ بالكلام ..
- الحياة هناك هادئة وجميلة .. أحاول أقصى جهدي أن أتقن الألمانية وأحاول الاختباء خلف الجالية العربية الكبيرة المتمرسة هناك لأبتعد قدر ما يمكن عن ارتكاب الأخطاء و ….
كنت جالساً أتأمله وهو يتكلم باستغراق وأرمق بطرف خفي طبق التشيس كيك بشهية .. كنت ألمحه في ثلاجة الماركت في كل مرة أذهب فيها للتبضع ولم يخطر لي في أي وقت من الأوقات أن أجربه .. ولكنه الآن يبدو شهياً وأنا بدأت أشعر بالجوع …
- تجنبتها ولكنها كانت تتعمد التواجد في كل مكان أذهب إليه لذلك بدأت أتعمد معاملتها بقدر من الخشونة .. كنت أريد أن تبتعد عني فقط ولكن ردة فعلها أدهشتني و ….
ألن يدعوني الى أكل التشيس كيك !!؟ .. لماذا يستغرق ذلك الأحمق في حديثه وينسى اللياقة وواجبات الضيافة !!؟ هل هذه إحدى تأثيرات الحياة في مجتمع غربي !!؟
- جلسنا في المترو الخالي وكان جميعنا عرباً وبدأنا في الغناء والضحك ورفع أحدنا المقطع على أنستغرام .. أرسلته لك لكي تشاهده .. هه ألم تشاهده ؟ .. عندما وصلنا الى الموقف نزلنا بسرعة وكانت رائحة لحم شهي تفوح في الأرجاء و …
شعرت بتقلص في معدتي .. هل آكل التشيس كيك وأتجاهل خجلي !؟ .. تذكرت ما قالته لي أم صديقي عندما لاحظت أنني لم أكمل كأس العصير الذي قدمته لي فقالت لي بابتسامة صغيرة أن كأس العصير هو جزء من نصيبي من الدنيا وأن عليّ إكماله وأن العيب الحقيقي في عدم إكماله …
- أخذوا يصرخون بالألمانية ولم أفهم ما يقولون .. أسرعت بالهرب فلحقوا بي وهم يشتمونني .. كيف عرفت !؟ .. لو لم يكن ما قالوه شتائم فأنا لا أفهم شيئاً ومن حسن الحظ أني كنت أسرع وتصادف وجود مركز للشرطة أمامي و …
هنا كنت قد وصلت لنهاية الطريق .. تململت في جلستي ثم قمت وقلت له بلهجة حاولت بأقصى جهدي أن تكون هادئة :
- أسف جداً يا خالد .. أنا مرتبط بعمل في الصباح الباكر ولن استطيع الجلوس أكثر و ….
هز خالد رأسه وقال ضاحكاً :
- لا تحاول الكذب عليّ أيها الأبله .. أنت تمر الآن بنفس مشاعر الدب الذي خرج مبكراً من سباته الشتوي .. لا بأس اذهب الآن وسأمر عليك خلال اليومين القادمين.
ودعته ونزلت الدرج مسرعاً .. هل مازالت أبواب الماركت مفتوحة يا ترى … تلفت حولي ثم اتجهت لأقرب واحد رأيته ولمحت الأضواء التي بدأت بالتناقص داخله .. وقفت أمام الباب وبدأت أحرك يدي بحركات عصبية محاولاً فتحه فلم يستجب .. بدأت حركاتي تتحول لقفز صريح من دون فائدة ولمحت عامليّن غارقين في الضحك في الداخل فتوقفت عن حركاتي البلهاء واستدرت لأغادر في خجل.
هنا فتح باب جانبي وناداني أحدهما وقال لي باسماً أن أخذ ما أريده وأغادر بسرعة فلقد أقفلوا أبوابهم بالفعل .. أسرعت الى الثلاجة والتقطت علبة تشيس كيك وأسرعت نحو الكاشير وبعدها لخارج الماركت محاولاً تجاهل النظرات الساخرة التي رمقني بها أغلب العاملين الواقفين من حولي.
هواء آخر أيام الشتاء لا يكف عن الهبوب ورائحة عوادم عربات خفيفة قادمة من زحام بعيد ..
نظرة للشارع الخالي ثم لعلبة التشيس كيك … فتحتها وبدأت بالمضغ.
أحب فكرة اﻷعداد الخاصة، ولو أنه أشعر بأنه فاتني شيء ما؟ لماذا يعرض عليك تشيز كيك إن لم تتمكن من تناوله؟
هو وضع طبق التشيس كيك ولم يدعوني إليه وأنا لا أكل أي شيء من دون دعوة حتى لو وضع أمامي .. لا تنسى مبدأ الأعداد الخاصة .. القصة حدثت مع شخص آخر وأنا أعدت صياغتها بأسلوبي 🙂
يبدو أن الصديق قد اكتسب عادة الألمان في الضيافة، ونسي أن يصر عليك ويلح أن تأكل.
نعم نسي واهتم بالثرثرة أكثر .. وغالباً سيكون قد أكلها بعد أن غادرت المنزل 😁
عادات الالمان في الضيافة غريبة. هم لا يعرضون ولكنهم كرماء عند احتياجك لهم معظم الأحيان
الكرم المشروط 🙂 .. الفكرة أن خالد لم يصبح ألماني حتى ولكن يبدو أنه يذاكر المنهج جيداً
قصة طريفة،الأنفة (عزة النفس) هي التي حرمت البطل من الطعام
المهم أن البديل كان موجوداً وإن كلفه ذلك أن يتراقص أمام باب المتجر 😄